إن الواقع السائد للفكر الإنساني، بكل مفرداته ومكوناته الاجتماعية وأنماطه التاريخية الحديثة والمعاصرة، هو المرجعية الأساسية في تفسير حالات الضعف واستبداد التخلف بالمجتمعات على مر الأزمنة والحُقب التاريخية الماضية، تاركاً آثاره الضارة في أوساط الجماهير ووعيها العفوي الفطري. بنبؤة سؤال فلسفي أيديولوجي "كيف يستطيع الإنسان أن يحيا ويستمر تفكيره، وقد أصبح الفكر السائد يفرض نفسه على مسارات حياته دون الإنصات إلى إملاءات العقل ؟!"، إذ إن الآراء السائدة لاتنبع من عملية تأمل صارم، بل عبر قرون من التخبط الفكري للإنسان ومعتقداته الفكرانية الكامنة في أنماط سلوكية معينة تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي. إن الفهم السائد هو النسق الكلي للأفكار والمعتقدات المجتمعية والاتجاهات العامة بصيغة واضحة في منظومة قوانين رسمية من الأحكام الأخلاقية والعمليّة. كان دي تراسي أول من وضع مصطلح الأيديولوجي للفكر السائد بوصفه "النظام الفكري والعاطفي الذي يعبر عن مواقف الأفراد في العالم والمجتمع والإنسان"، ولقد ظهر من خلال نغمته العاطفية وأسلوبه المحرك للجماهير المتناسب مع الحدث الاجتماعي. اعتاد الإنسان أن يقرن ماهو سائد بما هو صحيح، في حين قد يكون الآخرون على خطأ حتى لو كانوا يتبنون معتقدات راسخة، والسبب يكمن في حقيقته أنهم لم يعمدوا إلى التمحيص على نحو منطقي، إذ يمكن لأي شخص يمتلك عقلاً فضولياً وحسن تنظيم أن يسعى إلى التدقيق في المعتقدات السائدة في مجتمعه، حيث تمتاز المجتمعات السوية بسمات تتمثل في الحالة الطبيعية من الصحة والظروف المعتادة للمجتمع وأفراده وأي انحراف يعد علة مرضية، وبالتالي فإن فشلها في إشباع احتياجات الأفراد وتحديد أدوارهم الاجتماعية يؤدي إلى الإحباط والصراعات، وفقدان أدوات الحداثة الحضارية العالمية أو الإنسانية، ما يجعلها تابعة لبوصلة معينة في شكل انحرافات معينة أو تغيرات مهمة في البيئة الاجتماعية. منذ مايقرب من 25 قرناً من الزمان، كانت أثينا أنموذجاً للفكر الديمقراطي السائد عبر التاريخ، وقد أعجب به الكثيرون بوصفه أفضل نظام سائد، فقد كرست أثينا إجراءات التمييز بين الصواب والخطأ برفض شريعة سقراط ومحاكمته لفلسفته لمعتقدات مجتمعه، فوُئدت التجربة وعادت لفكرها المستبد ونظامها الديكتاتوري، ولكن الفكر السائد الديمقراطي صار جزءاً من النسيج الثقافي والتراث اليوناني، وبرغم ذلك كل فكر قابل للتغير والتعديل وفق مايطرأ على المجتمع من أوضاع ومواقف. لابد لنا أن نشعر بالضعف والتردّد في التأكيد على صحة مواقفنا بنزعة المعارضة، وأخذ مايلزمنا من الوقت للنظر إلى ماوراء النقد، يرشدنا الفيلسوف سقراط لطريق النجاة من وهمين شديدين: "أن ننصت دوماً، أو لا ننصت أبداً إلى إملاءات الرأي السائد، والاعتقاد الصحيح بالوعي العقلاني للإنسان"، فانتقال العالم من مرحلة تاريخية سابقة إلى مرحلة معاصرة ذات تحديات غير اعتيادية لا يمكن امتلاك القدرة على مواجهتها إلا بالعلم والمعرفة والوعي الاجتماعي السائد.