منذ سنوات وفي ورشة أدبية خُصصت للنقد ومناهجه، اطّلعتُ للمرة الأولى على قصيدة "مع جريدة" لنزار قباني، التي أصدرها ضمن ديوان "قصائد" العام 1956، وكان لقائي الأول مع القصيدة كغالبية الجمهور العربي، عندما غنتها الفنانة ماجدة الرومي العام 1994: "أخرج من معطفه الجريدة وعلبة الثقاب.." إلى آخر القصيدة. استوقفتني حينها صياغة العلاقة بين غريبين في المقهى، خاصة وأنّ تلك الصورة من إبداع شاعر عُرف بتوغله في المرأة وعالمها. تبدأ القصيدة بتكريس الصورة النمطية السائدة آنذاك للمثقف في وعي العموم، فالممارسات اليومية محورها المقهى، حيث يقرأ الجريدة بصحبة القهوة والتبغ، لتصير طقوساً ذات قداسة، يرتبط ذلك بزمن الثقافة الورقية، وما قبل الأجهزة الذكية، حيث يتجه المثقف للمقهى منفرداً بنفسه أو مجتمعاً بصحبه، للاطلاع على أخبار العالم، والتفكير العميق فيما يشغل ذهنه شاحذاً تركيزه بفنجان القهوة وتدخين التبغ. اختار قبّاني زمن المشهد الشاعريّ المفضل في أدبيات الحب العربية، وهو موسم البرد والمطر، شتاءً أو خريفاً، يتجلّى ذلك في المعطف والهطول، ويكمل الشاعر خوضه في المعتاد عبر تصوير الذاتية الطاغية في المثقف المنغلق على نفسه، المنهمك في طقوسه مع الجريدة، وعلبة الثقاب، وقطعتي السكر لتحلية قهوته، فكل التفاصيل يمارسها بصمت مطبق، مؤكداً هالة الغموض والأهمية. ولو انتقلنا إلى المرأة في المشهد، سنجد حبيبة، أو معجبة تترقبه في المقهى منذ زمن، بالرغم من تجاهله، أو لعله تفسيرها هي لموقفه الذي قد يكون بعيداً كل البعد عن التجاهل في حقيقته. يدعونا النص لدراسة العلاقة المختلة، والتي إن كانت حباً، أو إعجاباً من طرفٍ واحد، إلّا أنها إغراقٌ في المعتاد، باعتبار تلك السيدة الطرف الأضعف في العلاقة، فهي تجلس معه على ذات الطاولة لكنّه لا يشعر بوجودها، بينما اكتفت بمراقبته وتصدير الأماني. إنها تحيل استغراقه في تحلية الفنجان، إلى عبق الورد المتماهي مع دمها، وتتخيل أنها تشاركه قهوته، رغم ذلك لم تجنِ سوى الخيبات مع ضربات الأمطار. لم يكتف الشاعر بهذا، بل جعل الجلسة سريعة الإيقاع، ربما إمعاناً في التجاهل، وهذه السرعة تناسب فترة المكوث في المقهى ساعة المطر. جعل تلك المدة القصيرة كافية لأن تخلق لدى المرأة حالة شعورية تقربها من الرعونة، فيتمكن منها العاطفة في زمن قياسي. بينما الرجل يغيب عنها وعن العالم بمشاغله، فيبدو له الدوران مع الأفكار أجدى من التعرّف إلى امرأة تجلس على مقربة منه، متوّجاً هذا التجاهل بمغادرة المقهى، لكنّها تراقبه حتى إذا غاب في الزحام، تعود حبيسة وحدتها كما الجمادات التي خلفها وراءه، وهي غائبة عن ذهنه بطبيعة الحال. لعلّ نزار قباني قصد ذلك في تلك الحقبة من أعماله، حيث شغلته المرأة بهمومها لا سيما العاطفية، فأراد أن يحفر عميقاً، ويجعل من هذا الوضع المعتاد هزّة موجهة للمرأة، تتطلب إعادة النظر فيما تتوهمه، وقد حلل الناقد العراقي شوقي يوسف العلاقة موضوع القصيدة باعتبارها من طرفٍ واحد، ودلل على ذلك بأنّ الشيفرات التي ترسلها المرأة لا تصل إلى رجل الجريدة، وهذا يوضح المسافة النفسية بينهما ما يحوّل الحبّ إلى معاناة. مريم الزرعوني