فطر الله عز وجل عليها المخلوقات في الأرض فالإبل تحن إلى أوطانها، والطيور تحن إلى أعشاشها وأوكارها، أما الإنسان فحنينه إلى وطنه أشد وشوقه إليه أكبر، يقول الإمام إبراهيم بن أدهم: «عالجت العبادة فما وجدت شيئاً أشد علي من نزاع النفس إلى الوطن» فهو إذا جلس في مكة مثلاً نازعته نفسه إلى الرجوع إلى وطنه، ومن حكمة الله - عز وجل - في تسخير الناس لعمارة الأرض أن جعل حب الوطن متأصلاً في النفوس مجبولة عليه، فترى البلد القليل الأمطار الكثير الحر أو الكثير الأوبئة، ومع هذا لا يعدل به أهله جنات في الأرض وأنهاراً، وبما أن الوطن بهذه المنزلة وله هذه المكانة، فهل حبه والحنين إليه يؤجر عليه المسلم، إن حب المسلم لوطنه حب مشروع، يجتمع فيه الحب الفطري الغريزي، والحب الشرعي، وما تولّد حب الوطن إلا عن حب الأهل والأقارب والجيران، ثم عن تعلّق كل إنسان بمحل ولادته ومكان نشأته. وقد قيل لأعرابي: أتشتاق إلى وطنك؟ قال: كيف لا أشتاق إلى رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها. وأبيات الشعراء ومقالات الحكماء في ذلك كثيرة جداً. فحب الوطن نبه عليه الشارع الحكيم في مواطن متعددة، يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري على حديث أنس «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته - أي أسرع بها - وإذا كانت دابة حركها من حبها» قال رحمه الله: فيه دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه. وفي الصحيح عن عائشة في قصة الوحي أن ورقة بن نوفل لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟! قال: نعم. والاستفهام الإنكاري هنا دليل على شدة حب الوطن وعسر مفارقته فالوِحدة الدينية والوطنية في أصول شريعتنا الغراء من الضروراتِ المحكمات، والأصولِ المسلَّمات كما هي من أسس الأمن والاطمئنان، ودعائم الحضارة والعمران، وإنّ ذكرى اليوم الوطني ال (90) تأتي بكل ما تحمله من مسيرة خير وتوحيد وبناء لتُرسّخ مفهومها الوطني، فهي مناسبة عزيزة على جميع المواطنين، يستذكر فيها الجميع البطولات والمنجزات التاريخية لمؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الذي وحد الوطن مع رجاله المخلصين لتتبوأ من خلالها المكانة المرموقة بين دول العالم. إن وطننا قد اجتمع فيها الحبان: الحب الفطري الغريزي والحب الشرعي، بلاد قامت على منهج الإسلام الوسط، فهو صالح لكل زمان ومكان، ولا يتعارض مع العلوم العصرية والتطورات الحضارية، بل يستفيد منها بما يكفل للفرد والمجتمع حياة هنيئة سعيدة متطورة فهي تجمع بين حياة الروح وحياة الجسد فالشريعة الإسلامية ليست شريعة جامدة، بل مرنة متجددة لا تنافي الأخذ بالتجديد في وسائل العصر والإفادة من تقنياتها. ولذا أصبح أهل هذه البلاد لهم مكانة مرموقة في جميع أنحاء العالم لما وصلت إليه المملكة من تقدم في مختلف المجالات التنموية وما وصل إليه أبناؤها من مستوى حضاري وفكري مميزين، ومن مظاهر حب الوطن السمع والطاعة لولاة الأمر -حفظهم الله- وتجسيد مشاعر الوفاء وصدق الانتماء لهذه الأرض المباركة، وإخلاص العمل لرفعة وتقدم هذا الكيان الغالي. أسأل الله أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهد الأمين الأمير محمد بن سلمان وأن يديم على بلادنا أمنها وأمانها واستقرارها وازدهارها وريادتها، وخدمتها الرائدة للحرمين الشريفين وضيوف الرحمن.