الإعلام في الغالب مهما تعددت وسائله، تقليدياً، كان أو جديداً توجهه مصالح شخصية في المقام الأول، ثم مصالح وطنية أو إقليمية، والادعاء بأنه حر فيه مبالغة غير حقيقية، فلا يسلم من ذلك حتى القنوات الإخبارية التلفزيونية التي تركز على أخبار بعينها وتهمل أخرى بناء على أهدافها وما يريده صانعوها منها نقرأ كثيراً عن حرية الرأي والصحافة الحرة، ورفع القيود عن المعلومات، وانتفاء الرقابة والوصاية على حرية التعبير، وما إلى ذلك من المصطلحات التي تأتي متزامنة مع الحديث عن حرية الصحافة التي يفترض فيها أن تمنح الحق في التدفق الحر للمعلومات بما يمكن المستقبل من الوصول إلى الوعي التام بحقوقه وواجباته، وبما يساعد على تنمية حسه الوطني والإنساني وتعزيز مبدأ الشفافية، ومنحه حرية التعبير عن رأيه دون ضغوط خارجية من أي جهة كانت. ولكن عند التطبيق نجد أن التنظير الفلسفي بعيد عن التطبيق الفعلي، فمن المستحيل مثلاً أن نجد دولة ما تقدم مصلحة وطنية معينة، أو قضية تتعلق بمواطنيها، كخلاف على الحدود بين دولتين مثلاً على مصلحة الدولة التي تصدر منها هذه الوسيلة الإعلامية، لأنه سيُفسر تلقائياً بكونه خيانة وطنية. ومن أكثر من يتشدق بحرية الصحافة، أميركا التي تدعي أنها فتحت المجال لإعلامها للحصول على أي معلومات يرغبها دون أي قيود، ولكن الواقع يقول إن أكثر من استطاع توظيف الإعلام لخدمة أهدافه وتطلعاته السياسية هي أميركا، وتأتي بعدها بريطانيا ثم فرنسا.. وللتوضيح أكثر، فلقد تعودنا من الصحافة الأميركية نشر معلومات وتقارير مكثفة ومنتقاة بعناية من الدوائر الاستخبارية عن دولة ما على أعمدة الصحف الكبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز ثم (CNN) وشبكات التلفزيون الأخرى لاحقاً. وحتى توقيت النشر يتم بعناية قبل زيارة مسؤول هذه الدولة للبيت الأبيض بأيام. ومن المعروف أن هذه التقارير والمعلومات تستخدم كأوراق ضغط على هذا المسؤول أو ذاك للتجاوب مع السياسات التي يريدها البيت الأبيض.. والشواهد هنا كثيرة جداً وخلال سنوات طويلة. من هنا ندرك أن معظم وسائل الإعلام تنفذ أجندات حكومية، أو أجندات لهيئات ومنظمات إقليمية أو دولية، سواء كانت هذه الوسيلة تصدر من داخل البلد أو من خارجه. ونتذكر بعد هجرة الصحافة اللبنانية من بيروت وانتقالها إلى باريس ولندن كيف توزعت الولاءات بينها تبعاً للجهة الداعمة حتى إنك تقرأ خبراً في وسيلة إعلامية مناقض تماماً لنفس الخبر في الوسيلة الإعلامية الأخرى تبعاً للجهة الداعمة. اليوم ومع تطور الإعلام ودخول وسائل التواصل الاجتماعي على خط الصحافة التقليدية.. هل تغيرت الولاءات وهل أصبح القارئ أو المستقبل ينعم بحرية أكبر في تلقي المعلومات؟ هذه المسألة نسبية بدرجة كبيرة.. فإذا كان المقصود سرعة تدفق المعلومات وكثافتها، فلاشك أننا نعيش عصراً ذهبياً لم يكن متوفراً أيام الصحافة التقليدية، أما إذا كان المقصود حرية تدفق المعلومات ومصداقيتها فالأمور لم تتغير كثيراً، فلازالت هناك المئات من المواقع الإلكترونية التي يتم استحداثها للضغط على موضوع معين، وحتى على فرد بذاته، ولازالت الأجندات كما هي لم تتغير بل للأسف ازدادت حدة، حتى وصلت في بعض الأحيان إلى حد التعريض الشخصي، والتدخل في خصوصيات الأفراد لتحقيق أهداف بعينها دون النظر إلى مدى صحة هذه المعلومات من عدمها. الوسائل الإعلامية وإن تغيرت أو بتعبير أصح تطورت، إلا إن سياساتها وأهدافها لم تتغير، بل إنها منحت فرصة لمؤسسات صغيرة، بل لأفراد بقدرات محدودة جداً للدخول في معترك الدفاع عن هذا أو ذاك لمجرد أن حسابه يزوره الآلاف أو مئات الآلاف، فهنا انتفت الشفافية، وزالت المصداقية عن هؤلاء الأفراد الذين يهمهم الترويج لحسابهم، ولمن يدفع أكثر. وكأمثلة على ذلك ماحدث مع بعض مشاهير التواصل الاجتماعي في الكويت، وهنا في المملكة حيث وصلت رغبة البعض بالترويج لنفسه إلى ارتكاب حماقات في ظل جائحة كورونا، فأوحى للناس مثلاً بأنه يشرب مطهراً للحماية من كورونا، ويأتي آخرون ليعلنوا بطولاتهم في تحدي التعليمات والاحترازات الوقائية، وفي مصر أيضاً رأينا فتيات يروجن لحساباتهن من خلال الصور المبتذلة. وليس بعيداً عنا ما تقوم به وسائل الإعلام الأميركية في تغطية الحملات الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب، والمرشح الديموقراطي جو بايدن، فشبكة سي إن إن، ولموقفها المناهض للرئيس الأميركي ترمب تفسر كل تصريح أو خبر على أنه ضده، وتجتهد لإيضاح الأسباب بكل الوسائل الممكنة، بينما في المقابل نجد شبكة (فوكس نيوز) المؤيدة لترمب تفسر كل تصرف أو تصريح أو معلومة لدعمه، وهكذا العكس مع بايدن، فأين الشفافية والمصداقية، وحرية تدفق المعلومات التي يتحدثون عنها. الإعلام في الغالب مهما تعددت وسائله، تقليدياً، كان أو جديداً توجهه مصالح شخصية في المقام الأول، ثم مصالح وطنية أو إقليمية، والادعاء بأنه حر فيه مبالغة غير حقيقية، فلا يسلم من ذلك حتى القنوات الإخبارية التلفزيونية التي تركز على أخبار بعينها وتهمل أخرى بناء على أهدافها وما يريده صانعوها منها. هنا ينبغي علينا عدم التسليم بالروايات والقصص في بداية عرضها، فللحصول على الخبر الصحيح، لابد من مقارنة الأخبار مع بعضها، واستقائها من أكثر من مصدر، مع ضرورة عدم الانسياق وراء الأخبار المكذوبة أو المبالغ فيها، ولنا فيما تتعرض له المملكة وقيادتها خير شاهد على توظيف الأخبار والمعلومات لخدمة أهداف معروفة.