تشير الخبرة التاريخية إلى أن الصحافة ولدت ومعها قيودها وتطورت هذه القيود وتنوعت أشكالها وطالت وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي والالكتروني عبر مسيرة طويلة بدأت منذ اختراع المطبعة على يد غوتنبرغ عام 1452. وعندما نتأمل الواقع الراهن لحرية الصحافة والإعلام في العالم العربي نلاحظ أن المشرع العربي في تنظيمه لحرية الرأي والتعبير بما في ذلك التنظيم القانوني للصحافة ووسائل الاتصال الجماهيري يرجح في الأغلب اعتبارات الأمن والمصلحة العامة والتي يقصد بها مصلحة النظم الحاكمة على قيم الحرية والتعددية وحقوق الإنسان، ولهذا تمتلئ التشريعات العربية العقابية منها وغير العقابية بالعديد من النصوص التي تعتبر النشر الصحافي والبث المسموع والمرئي وممارسة حرية التعبير عموماً من الأنشطة الخطرة التي يجدر إحاطتها بسياجات قوية من المحظورات والقيود الرادعة حفاظاً على ما توهمه المشرع من اعتبارات الصالح العام والأمن القومي والنقاء العقائدي وثوابت الأمة الفكرية والاجتماعية وغير ذلك. كما لوحظ أن المشرع العربي ينظر بريبة شديدة إلى مبدأ حرية تداول المعلومات وحق الصحافيين والمواطنين عموماً في الحصول على المعلومات. ويكاد يكون المبدأ الحاكم في هذا الشأن هو مبدأ الحظر لا الإباحة والتقييد لا الإتاحة. ولذلك لم يرد النص على حق الصحف في الحصول على المعلومات والأخبار إلا في تشريعات خمس دول عربية هي مصر والسودان واليمن والأردن والجزائر، الأمر الذي جعل حرية تداول المعلومات في الدول العربية كافة تتعرض لانتهاكات مستمرة تتمثل في العديد من أشكال الرقابة وسلطة القبض والمصادرة للصحف والمجلات الواردة من الخارج وتصل إلى حد فرض الرقابة على الصحافة الالكترونية وتحريم الاتصال بشبكة الانترنت. وتمتلئ التشريعات العربية بالنصوص التي تحدد المعلومات المحظور تداولها أو نشرها. ولعل أبرزها المادة 77 الفقرة السابعة من قانون نظام العاملين في الدولة في مصر والتي تحظر على الموظفين الإدلاء بأي تصريح للصحف. كما يحظر قانون نشر الوثائق الرسمية رقم 121 لسنة 1975 نشر هذه الوثائق إلا بتصريح خاص من مجلس الوزراء، كما يحظر المشرع نشر أية أخبار أو معلومات أو وثائق تتعلق بالمخابرات العامة، إلا بعد الحصول على إذن كتابي من رئيسها، كل هذه النصوص وغيرها الواردة في تشريعات الدول العربية تفرغ مضمون النصوص الدستورية والقوانين العربية التي تنص على حق الصحافي في الحصول على المعلومات وتداولها، وتؤكد الدراسات ميل التشريعات العربية كافة إلى المبالغة في تقييد حرية إصدار الصحف وملكيتها، فهناك 17 دولة عربية لا تجيز إصدار الصحف، إلا بناء على ترخيص مسبق يتضمن العديد من الشروط التعجيزية. وتفرض تشريعات 12 دولة عربية رقابة مسبقة على مضمون الرسالة الإعلامية، كما تتجه أغلب التشريعات الصحافية إلى منح السلطات الإدارية حق تعطيل الصحف ومصادرتها وإلغاء تراخيصها. وتشتد قبضة السلطات الحاكمة على الصحف وما تنشره في حالات الطوارئ. هذا النهج التشريعي العربي الذي يضيّق الخناق على حرية الرأي والتعبير وفي قلبها حرية وسائل الإعلام وعلى الأخص الصحافة يمكن رده تاريخياً إلى تجذر الاستبداد في البنية السياسية والاجتماعية والعربية، فضلاً عن التبريرات السياسية التي تتبناها النخب الحاكمة على الساحة العربية. وقد يفسر ذلك الوضع الملتبس والمتناقض مع روح العصر أسباب الصراع المستمر بين التيار الإصلاحي المطالب بإطلاق الحريات، خصوصاً في الصحافة وبين التيار المعادي للحريات والمتغلغل بقوة داخل نسيج النظم العربية الحاكمة والذي يسعى بدأب لتشديد قبضته الحديد على حرية الصحافة والإعلام بذريعة حماية الأمن القومي. ومما يجدر ذكره أن القيود الإدارية والقانونية والأمنية التي دأبت الحكومات العربية على فرضها على تداول المعلومات وحرية التعبير فقدت مغزى وجودها وجدواها بفضل الثورة العلمية والتكنولوجية في مجالي الاتصال والمعلومات. فقد ترتب على التقدم النوعي الهائل وغير المسبوق في تكنولوجيا الاتصال والمعلومات أن أصبحت القيود التشريعية على حرية الرأي والتعبير، ومنها حرية الصحافة والإعلام، نوعاً من اللغو التشريعي، بل تحولت إلى أداة عاجزة عن فرض هيمنتها وإجبار المواطنين على الامتثال لها. وينسحب الأمر على سائر القيود الإدارية والأمنية التي فقدت فاعليتها وجدواها في عالم السموات المفتوحة وحرية تدفق المعلومات بثاً واستقبالاً عبر القارات، ترتب على ثورة الاتصال والمعلومات أن أصبحت البنية التشريعية العربية الحاكمة لحرية الصحافة والإعلام وحرية الرأي العام والتعبير عموماً بنية عاجزة عن مسايرة مستجدات العصر وضروراته. وهنا يثار التساؤل عن مدى مشروعية وجدوى التمسك والحرص على تطبيق هذه المنظومة التشريعية العاجزة، التي جعلت العالم العربي في ظل ثورة الاتصال والمعلومات ساحة متلقية للإعلام الوافد بكل ما يحويه من معلومات وآراء وأفكار متحيزة بل ومغرضة دون مواجهة حقيقية بسبب العجز عن إنتاج إعلام حر مبدع قادر على الصمود أمام المنافسة الدولية في ظل القيود التشريعية الصارمة التي تحاصره. وأفرز هذا الوضع الشائك المتناقض ظاهرة جديدة تتمثل في وجود العديد من الفضائيات العربية وبعض الصحف العربية التي تسعى لتجاوز القيود التشريعية من خلال خطاب إعلامي لا يتعرض بالنقد لقضايا دولة المنشأ ولكن يمارس النقد للقضايا والأوضاع في الدول العربية عموماً. هذا ولا تكتفي النظم العربية الحاكمة بالقيود التشريعية لمحاصرة وتحجيم حرية الرأي والتعبير بل تكشف الممارسات الفعلية في معظم الدول العربية عن انتهاكات مستمرة لهذه الحرية، سواء إغلاق الصحف ومصادرتها وتعطيلها، أو عدم توافر الضمانات الكافية للصحافيين لممارسة دورهم، إذ يتعرضون للحبس وتغليظ العقوبات والإيقاف عن ممارسة المهنة ويسقط بعضهم ضحايا لعمليات الاغتيال والإرهاب، علاوة على محاولات الترهيب والترغيب والضغوط من جانب ذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي. ومع استمرار أشكال وصور الرقابة السابق ذكرها على الصحافة ووسائل الإعلام التقليدية ظهر نوع جديد من الرقابة ارتبط تحديداً بالصحافة الالكترونية. إذ أصبح للمرة الأولى بإمكان السلطات الحاكمة استخدام تكنولوجيا الاتصال ذاتها كوسيلة للرقابة على الإعلام الالكتروني، وظهرت الرقابة التكنولوجية في سياق التطور المتزايد الذي حققته الانترنت باعتبارها وسيلة للاتصال الشخصي والجماعي والجماهيري. فكلما تطورت هذه الوسيلة تطورت معها قيودها المتمثلة تحديداً في برامج التصنيف والفلترة. والجدير بالذكر أن معظم حكومات العالم تستخدم الانترنت وعلى سبيل المثال تستخدم حكومات عربية برنامجا للتصنيف والفلترة يمنع الوصول إلى المواقع والمواد غير المرغوبة فيها من جانب هذه الحكومات. هذا وتأتي وثيقة تنظيم البث الفضائي في العالم العربي التي أقرها وزراء الإعلام العربي باستثناء قطر ولبنان كحلقة أخيرة في سلسلة المحاولات المتواصلة من جانب الحكومات العربية لتحجيم وتقييد هامش حرية التعبير التي انتزعته الفضائيات العربية وأصبح يمثل تهديداً جديداً لمصالح ونفوذ الأنظمة الحاكمة بما تطرحه الفضائيات من برامج تسعى إلى تعرية الفساد وسوء الإدارة وانتقاد السياسات العامة، وهذه كلها ليست إلا نماذج للأداء الإعلامي العصري الذي يستهدف توعية الرأي العام وحماية حقوق الأفراد والجماعات في المعرفة وفي المشاركة. ولعل أخطر ما تضمنته هذه الوثيقة وإقرارها لحق السلطات الرسمية في سحب تراخيص الفضائيات التي لا تلتزم بالبنود المقيدة لحرية التعبير والتي تزخر بها الوثيقة في صياغات مطاطية غامضة. المعوقات المجتمعية عندما نتأمل هذه الظواهر المعتمة في واقع الإعلام والصحافة العربية والتي تعوقها عن أداء رسالتها في التنوير وصيانة حقوق الإنسان العربي في الوعي والمعرفة، بل في ضمان حياة آدمية كريمة وآمنة من الخوف والحاجة حينئذ يبرز أمامنا السؤال التالي: ما هي المعوقات الحقيقية التي تحول دون بلوغ هذا الهدف، أي تحقيق ديموقراطية الاتصال بمعناها الشامل وما يرتبط بها من ضمان الحقوق الإعلامية للجمهور والحقوق المهنية للصحافيين في إطار المسؤولية الاجتماعية ومراعاة حقوق الوطن والمجتمع. لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال تطرح أمامنا جملة العوائق والتحديات التي تواجه الوطن العربي وفي قلبه الصحافة والإعلام العربي وتتلخص في ما يلي: 1- الفوارق الاجتماعية الهائلة بين القلة التي تتحكم في موارد الثروة والإنتاج ووسائل التعبير السياسي والإعلامي والأوضاع الثقافية والتعليمية وبين الكثرة من الجماهير العربية المحرومة كلياً أو جزئياً من المشاركة في الاستفادة بعوائد الثروات الوطنية، وبالتالي من المشاركة في صنع القرارات المحلية والقومية. 2- انتشار الأمية لدى الجماهير العربية بما لا يتناسب مع التراث التاريخي والحضاري ولا الواقع الاقتصادي والاجتماعي الراهن. 3- أزمة النخبة المثقفة والمتعلمة في العالم العربي، فهي تتأرجح بين خطرين أولهما القهر السياسي والاجتماعي، وثانيهما محاولات الاستيعاب والاحتواء من جانب الأنظمة العربية. 4- احتكار الحكومات العربية لوسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع ووكالات الأنباء. 5- سقوط النظام الإعلام العربي بعد الحصول على الاستقلال في أسر التبعية الإعلامية للغرب"أوروبا وأميركا"والتي شملت مصادر الأخبار"وكالات الأنباء"وتكنولوحيا الاتصال المطبوع"الورق - الأحبار? المطابع"أو تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية وأجهزة الكمبيوتر وبنوك المعلومات. 6- غياب الديموقراطية عن المؤسسات السياسية والإدارية والاجتماعية والثقافية والإعلامية كافة في الوطن العربي، ويرجع ذلك إلى انتفاء وجود تراث ديموقراطي في الأبنية الاجتماعية والثقافية بدءاً بالأسرة والقبيلة ومروراً بالمؤسسات التعليمية وانتهاء بالأحزاب السياسية وتنظيمات المثقفين أنفسهم، ما يجعل غياب الديموقراطية السياسية في المجال الإعلامي لا يبدو شاذاً في سياق الواقع العربي الراهن. 7- تخوض الثقافة القومية بتياراتها السياسية المتباينة وروافدها الثقافية صراعاً مستمراً في مواجهة الثقافات التي تتصارع على الساحة العربية، وهي بالتحديد الثقافة الأميركية الاستهلاكية والثقافية الفرانكفونية وثقافة التطبيع مع العدو الصهيوني، ولعل أخطرها ثقافة التطبيع، إذ أنها لا تحمل فحسب مشروع فرض هيمنة ثقافية صهيونية على الحياة الثقافية العربية كما هو الأمر في الثقافات الأميركية والأوروبية، بل هي في الحقيقة مشروع تدمير وتفكيك ثقافي للمنطقة العربية بكل ما تحمله الكلمة من معاني التناثر والتشرذم والفوضى والضياع. إنها باختصار مشروع يستهدف تجريد الأمة العربية من ثقافتها كي تصبح شبيهة بثقافة الكيان الصهيوني القائم في قلبها. ونجحت الصهيونية في اختراق الصحافة العربية وتسريب مصطلحاتها التي تستهدف تشويه الحقائق وتطويع اللغة الإعلامية لصالح أهدافها التوسعية، وتم ذلك في ظل اتفاقيات السلام مع إسرائيل. ويلاحظ تسلل مصطلحات التطبيع الإعلامي إلى وسائل الإعلام في الدول التي وقعت على اتفاقيات السلام مصر? الأردن? قطر? موريتانيا. وهكذا يظل الإعلام والصحافة العربية أسرى لكثير من القيود التي تدور حول الرقابة الذاتية لدى الصحافيين وسطوة الإعلانات وضغوط وإغراءات المتحكمين في السوق وهيمنة الحكومات على المؤسسات الإعلامية والنقابات والاتحادات الصحافية، علاوة على التحديات الاقتصادية التي تواجه صناعة الصحافة وحاجاتها إلى رؤوس أموال ضخمة لمواجهة متطلبات التطوير والتحديث والمنافسة. پ * كاتبة وأكاديمية من مصر