مع مرور عقدٍ كامل على رحيل الأديب الوزير غازي القصيبي يتجدد حضور ذكراه، فيملأ الدنيا ويشغل الناس ويقتطع لنفسه مساحة معتبرة في فضاءات التواصل بأبياته العذبة وآثاره الحميدة وإضافاته ومؤلفاته الثرية والمتنوعة، ومع تلك الحفاوة المستحقة نعود إلى أحد أبرز ملامح شعره المميز «هاجس الغياب» الذي ظل ملازماً له في معظم نتاجه الشعري في مختلف المراحل العمرية، وبحسِّه النقدي استشعر تلك الظاهرة ووصفها في سيرته الشعرية بشعوره بشكل متزايد بوطأة العمر على نحو غريب ومرَضي، وقد عبر له أصدقاؤه عن تضايقهم من ذلك، مذكرين له بأنهم أترابه، ويكبرون كما يفعل، إلا أنهم لا يشعرون بأي شكوى تجاه ذلك، قبل أن يقرر بأن شعوره بمرور الوقت ليس عادياً أبداً. هذا الشعور المتزايد والقلق أنتج العديد من الروائع الشعرية للقصيبي، فبثّ في دواوينه عشرات الأبيات والقصائد يشكو خلالها لواعج المشيب ودنو المغيب، فنجده يعبر عن تلك الهواجس في قصيدته الشهيرة «يارا.. والشعرات البيض» يحكي عبرها بطرافته المعهودة قصة مطاردة ابنته يارا لشعراته البيض، فيصف المشهد المؤثر بقوله: مالت على الشعرات البيض تقطفها يارا.. وتضحك «لا أرضى لك الكبرا» يا دميتي! هبك طاردت المشيب هنا فما احتيالك في الشيب الذي استترا؟ ويستمر القصيبي في التوقف عند سنين عمره عقداً بعد آخر، ينشد في الخمسين والستين والسبعين، يبكي تصرّم أيامه، وانقضاء لياليه، يعبر عن همومه، ويستحث ذكرياته، ويخلد للأجيال تجربة إنسانية مختلفة، ينحت عبرها بمداد من ذهب ما يدور في خواطر الناس دون أن يتمكنوا من التعبير عن ذلك، بأبيات عذبة ومشاعر مرهفة وصادقة، قبل أن يختم تلك التجربة بمرثية «سيدتي السبعون»: ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟! لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ انتحى فيها نهج قصيدة مالك بن الريب التي قال عنها في مختاراته الشعرية: هذه أعظم القصائد في شعرنا العربي كله، قديمه وحديثه، وخشية أن تروع هذه الجملة أحداً أود أن أسارع فأضيف أن هذا حكم شخصي بحت، ترجَمَتُه أن هذه القصيدة أقرب قصيدة في شعرنا إلى قلبي، وللناس فيما يعشقون مذاهب!، وبقي غازي وفياً لهذا المذهب، مستمراً على هذا النهج، فحين شعر بدنو الأفول، واقتراب النهاية كتب «حديقة الغروب» يودع دنياه ويستقبل آخرته بابتهالات روحانية صادقة: يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي أيرتُجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ معاوية الأنصاري