لقد تعودتم مني على مدار تاريخي الصحفي والإعلامي أن لا أكتب إلا المقالات السياسية لكن الذي دعاني اليوم لكتابة هذا المقال المطول عن مستقبل السياحة في المملكة العربية السعودية هو ما تفاجأت به يوم الأحد 2 أغسطس من وفاة أكبر دليل سياحي في السعودية وهو السيد سعيد جمعان «أبو سند» عن عمر ناهز ال90 عاماً، بعد أن أفنى عقوداً من حياته في تعريف زوار نجران، جنوب غربي المملكة، بهذه المنطقة الساحرة.. وبعد أن قضى أكثر من 70 عاماً في مجال تعريف الزوار بتاريخ نجران وتراثها. وعلى الرغم من أنه «كان أمياً ولم يدخل مدرسة قط، لكنه تمكن من إتقان 3 لغات هي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية من خلال مرافقته السائحين الأجانب الذين عشقوا جنوب السعودية والذين لم يكن الإعلام السعودي والعربي يلقي عليهم الأضواء في العقود الماضية لأسباب كثيرة.. اليوم لم تضع جهود العم أبي سند، وأصبحت السعودية على مشارف أن تكون إحدى أهم الدول السياحية في العالم نظراً للرؤية الجديدة التي أطلقها ولي العهد، والتي تؤكد أن السياحة اليوم لابد أن تحظى بأهمية كبيرة ومميزة لكونها إحدى أهم الصناعات في العالم، وأنها إحدى أكبر الدعائم الأساسية التي تعزز النمو الاقتصادي وتسهم في إنعاش الحركة الاستثمارية، وتوفير الفرص الوظيفية... ولا يخفى علينا أن أكثر الدول تطوراً هي التي حظيت بالنصيب الأكبر من السياحة العالمية من حيث المواقع السياحية، وسهولة التنقل داخل مدنها، وأسعارها المنخفضة، ما جعلها تصل لدرجة تنافسية عالمية عالية. ولنتوقف أولاً عندما أشارت إليه رؤية 2030 وتأكيدها على أهمية قطاع السياحة والترفيه من أجل تنويع مصادر دخل المملكة وتشجيع القطاع الخاص، وتحدثت الرؤية كذلك عن خطط تطوير أماكن سياحية وفق أعلى المعايير العالمية وتيسير إصدار تأشيرات للزوار، إضافةً إلى تهيئة المواقع التراثية وتطويرها، ومنذ إطلاق تلك الرؤية توالت إعلانات المملكة عن مشروعات ضخمة في القطاع السياحي.. وإذا تكلمنا عن النجاحات في هذا المجال خلال العام الماضي فإنه وبلا شك فقد رصد العام 2019م كثيراً من التغيرات الجذرية والإيجابية في قطاع صناعة السياحة والسفر في المملكة، حيث تسارعت الأحداث والقوانين والتي تصب في مصلحة القطاع السياحي، وبالأخص التي ستساعد في نمو الناتج المحلي، ولم تكن هذه الأمور متوافرة قبيل العام 2016م - أي قبل إعلان رؤية 2030 وأهداف برنامج التحول الوطني 2020 - فقد كان قطاع السياحة داخل السعودية يشهد العديد من التحديات، أهمها: ضعف مستوى الخدمة المقدمة مقارنةً بالدول المجاورة، وانخفاض جاذبية الاستثمار في هذا القطاع، وتدني الطلب على الوظائف المتعلقة بشكل مباشر بالسياحة كالفنادق والمطاعم وغيرهما، ونظراً لعدم وجود تأشيرات سياحية كان من غير الممكن حساب الزوار كسياح، وهنا لا يمكننا القياس اعتماداً على الحجاج والمعتمرين لأن زيارتهم ذات غرض لا يوجد لها منافس في السوق - زيارة لغرض وأداء فريضة دينية - وبالتالي لم يكن يتوفر لدى المحللين أي مقومات لعمل إحصائيات أو استبيانات متخصصة في السياحة أما بعد إعلان رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 وبالأخص خلال العام 2019م نجد أن المملكة انتهجت منهجاً حديثاً في ترويج قطاع السياحة وفي ترويج المملكة كوجهة سياحية وتسليط الضوء على أهمية السياحة ومساهمتها بأكثر من 71 مليار دولار في الناتج المحلي قبل نهاية العام 2019م، وتم تذليل الإجراءات لتسهيل وجذب الاستثمارات المحلية والعالمية في قطاع السياحة وبالأخص في إنشاء المطاعم والفنادق، أمّا بالنسبة للتأشيرات السياحية فقد تم تسهيلها بأفضل الوسائل لتكون حافزاً للزوار من شتى أقطار العالم، حيث صنفت رسومها على أنها رسوم رمزية مقارنةً بغيرها من الدول، وبالتالي فما دامت أجندة الترفيه ممتلئة ومتنوعة في المنطقة فالسياحة السعودية بالتالي ستنشط، ومثل تلك المشروعات الضخمة التي نراها سينشأ عنها وبلا شك العديد من الوظائف المباشرة وغير المباشرة بقطاع السياحة، وسينمو قطاع التدريب والتمكين من هذه الكفاءات المحلية لتصبح مؤهلة للعمل في هذا القطاع، بل إننا نرى توجهاً صارماً من أغلب الجامعات السعودية ومعاهد التدريب التقنية لهذا القطاع نظراً لتميزه خلال المستقبل القريب. حسب تقرير المنظمة العالمية للسياحة فإن أهم فئة ترغب بالسياحة في السعودية وتستثمر فيها هي الفئة التي تبحث عن السياحة التراثية، ذلك أن المملكة تعد كنزاً غير مستكشف إلى هذه اللحظة، فقد رصد عدد كبير من المؤرخين أن شمال غربي المملكة مثلاً كان أرضاً للرسالات وللعديد من القبائل القديمة، والمملكة بحاجة فقط إلى تسخير هذه المناطق الأثرية وحمايتها ووضعها تحت مسار سياحي منظم وسوف تلاقي استحسان وإقبال السياح من كل مكان، وهنا يأتي دور الشركات المحلية وتفاعل مزودي الخدمات في رفع مستوى الخدمة المقدمة لتنافس الخدمات المقدمة من الدول الأخرى والتي تصنف كوجهات سياحية مستمرة طوال العام، كذلك يأتي دور المجتمع السعودي ودور المنظمات الحكومية والتي تعنى بالسياحة في دعم المواطنة المتخصصة في هذا القطاع بتمكين الأفراد من الجنسين بالعمل وتسخير الأنظمة والقوانين التي تحميهم وتحفظ حقوقهم. يتكلم كثير من الاقتصاديين حول أن السياحة ستكون أحد أهم روافد الاقتصاد العالمي مستقبلاً، وأنا أقول هنا: إن السياحة ستكون في المملكة ذات أهمية عالية وستساهم في تحقيق برامج رؤية المملكة 2030، وستكون مصدر دخل إضافي لميزانية الدولة ضمن المصادر غير النفطية، وستساعد في تطوير البنية التحتية وتحقيق برامج جودة الحياة، حيث إن الدولة السعودية سعت من خلال صندوق الاستثمارات العامة وهيئة الاستثمار في التشجيع وطرح الفرص الاستثمارية لتطوير وتنمية قطاع السياحة ضمن مشاريع من أهمها مشروع نيوم والقدية والبحر الأحمر وسيتبع ذلك تأسيس شركات وطنية للاستثمار، وكذلك تشجيع الشركات الأجنبية للمساهمة والاستفادة من هذه الفرص الوظيفية واستغلال المواقع المميزة في بناء مشروعات سياحية وترفيهية تساعد في جذب السياح بعد التسهيلات التي تم تقديمها من خلال فتح التأشيرات السياحية، وكذلك فإن للشركات السعودية خبرة مميزة في بناء المدن والمنتجعات السياحية التي تراعي المواصفات والمعايير العالمية في البناء والاستدامة وكذلك المحافظة على البيئة المحلية وتوفير أقصى درجات الأمن والأمان ليشعر السائح بالراحة وتتحقق الجودة في الخدمة المقدمة له، وكذلك لخلق التنافس بين المشروعات وإعطاء خيارات متنوعة للسائح والمواطن بين المدن الترفيهية والمشروعات السياحية. منذ إطلاق سمو ولي العهد رؤية المملكة 2030 كانت أحد أهم تلك المشاريع الطموحة المعلن عنها مشروع تطوير البحر الأحمر والقائم على امتداد شاطئ البحر الأحمر بين مدينتي أملج والوجه، والذي سيتم الانتهاء من المرحلة الأولى منه خلال الربع الأخير من العام 2022. وسيتم تطوير هذا المشروع على أكثر من 50 جزيرة طبيعية بالتعاون مع أكبر وأهم الشركات العالمية في قطاع الضيافة والفندقة للمحافظة على الموارد الطبيعية وفقاً لأفضل المعايير العالمية، وسيتضمن المشروع سواحل وشواطئ وبراكين خامدة ومحميات طبيعية للاستكشاف، ومواقع جبلية شاهقة وأخرى أثرية قديمة تتسم بالتنوع التراثي، كما تقع بالقرب من منطقة آثار مدائن صالح التي سجلت في العام 2008 على قائمة اليونسكو للتراث العالمي. مشروع البحر الأحمر هو نقلة نوعية في مفهوم السياحة وقطاع الضيافة، حيث ستتاح للزوار فرصة التعرف على الكنوز الخفية في منطقة مشروع البحر الأحمر، ويشمل ذلك محمية طبيعية لاستكشاف تنوع الحياة النباتية والحيوانية في المنطقة، وسيتمكن هواة المغامرة من التنقل بين البراكين الخاملة الواقعة بجوار منطقة المشروع، وعشاق الغوص من استكشاف الشعاب المرجانية الوفيرة في المياه المحيطة به. ومن تلك المشاريع العملاقة أيضاً إنشاء أكبر مدينة ترفيهية ثقافية ورياضية متنوعة على مستوى العالم، وتقع هذه المدينة في منطقة القدية جنوب غرب العاصمة الرياض، لتصبح عاصمة الترفيه المستقبلية الأولى من نوعها بالمملكة العربية السعودية، والأكبر على مستوى العالم، وتشتمل كذلك على منطقة سفاري كبرى لتصبح مدينة متكاملة تسهم في تلبية احتياجات جيل المستقبل الترفيهية والثقافية الرياضية بالمملكة، وتضمن بقاء المواطن السائح داخل موطنه. أما غربي السعودية فهناك مشروع «جدة داون تاون» لإعادة تطوير الواجهة البحرية في وسط كورنيش مدينة جدة، بهدف تهيئة بيئة جاذبة ومميزة تسهم في تطوير مدينة جدة ودعم طموحاتها لتصبح ضمن أفضل 100 مدينة على مستوى العالم، حيث سيساهم المشروع في تطوير منطقة حيوية مناسبة للترويح عن النفس والترفيه والتسوق، ما سيجعلها وجهة فريدة لمختلف فئات المجتمع من السكان والزائرين. كذلك أصبحت السعودية اليوم تمتلك عدداً من المتاحف المتخصصة سواء المتاحف التاريخية أو الحضارية أو ما يسمى المتاحف الموقعية وهي التي تقام في المواقع الأثرية المهمة لتعرض تاريخ الموقع وأهم آثاره المكتشفة ومستقبل الحفائر به حيث رأينا الجهود المبذولة في مجال تسجيل المواقع الأثرية الموجودة في المملكة لدى منظمة اليونيسكو، حيث تطمح المملكة إلى مضاعفة العدد ليرتفع من 4 مواقع - هي (مدائن صالح التي سجلت في العام 2008 - حي الطريف بالدرعية 2010 - جدة التاريخية 2014 - الرسوم الصخرية في حائل 2015) - إلى 14 موقعًا قبل حلول العام 2030، منها: الفنون الصخرية في بئر حمي، قرية الفاوي في منطقة الرياض، واحة الأحساء، طريق الحج المصري. إضافة إلى عدد القرى والبلديات، منها: قرية ذي عين في منطقة الباحة، قرية رجال ألمع في منطقة عسير، بلدة العلا التاريخية في منطقة المدينةالمنورة، مشروع وسط الرياض التاريخي الذي سيبدأ بحي الظهيرة والدحو ويتوسع ليشمل 15 كم. وكذلك هناك مشروع إنشاء أكبر متحف إسلامي في العالم، حيث تستهدف المملكة جعل هذا المتحف محطة رئيسة للسعوديين وضيوف المملكة للوقوف على التاريخ الإسلامي العريق. وكذلك ما يتفرع عنه من إنشاء متاحف التاريخ الإسلامي، والتي تشمل متحف التاريخ الإسلامي في قصر حزام في جدة، ومتحف تاريخ مكةالمكرمة في قصر الزاهر، ومتحف تاريخ الدولة السعودية في قصر الملك فيصل، ومتحف تاريخ المعارك الإسلامية في مكةالمكرمة، ومتحف غزوة بدر، إضافة إلى مواقع التاريخ الإسلامي التي تشمل متاحف مفتوحة مثل جبل أحد وجبل النور وجبل ثور. وأسجل هنا إعجابي بقدرة الوزارات المتعاونة في السعودية على الاتفاق على أن يكون المستهدف تحقيقه في هذا المجال حتى العام 2020 هو إنشاء 241 متحفاً. كذلك هناك مستقبل واعد لسياحة الصحراء، ما يؤكد أن السعودية وكما قال الأمير سلطان بن سلمان - الرئيس السابق للهيئة العامة للسياحة والآثار -: "غنية بمواردها، فهي من الدول التي تمتلك تنوعًا مثيرًا من التراث الثقافي والحضاري، ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية، وخلال الخمسة عشر عامًا الماضية تم تسجيل 11 ألف موقع أثري لحضارات تعود إلى ما قبل التاريخ وعصور ما قبل الإسلام والعصور الإسلامية..»....انتهى كلام سموه.. كل ما سبق يؤكد أن المملكة تسير على الدرب الصحيح في طريقها نحو استكمال بناء اقتصادها على أسس غير تقليدية وبعيداً عن الاقتصاد ذي المصدر الواحد المتمثل في النفط، وفي إطار تنفيذ رؤيتها المستقبلية 2030 التي أكدت أن المملكة على مدى التاريخ كانت معروفة بحضاراتها العريقة، وطرقها التجارية التي ربطت حضارات العالم بعضها بعضاً، الأمر الذي أكسبها تنوعًا ثقافيًا فريدًا، وهو ما سعت رؤيتها المستقبلية إلى تعزيزه عبر الحفاظ على الهوية الوطنية وإبرازها والتعريف بها، ونقلها إلى الأجيال المقبلة، من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والعناية بالتنشئة الاجتماعية واللغة العربية، وإقامة المتاحف والفعاليات وتنظيم الأنشطة المعززة لهذا النشاط التجاري... وأيضاً ما أكدت عليه الرؤية من أهمية إحياء مواقع التراث الوطني والعربي والإسلامي والقديم وتسجيلها دوليًا، وتمكين الجميع من الوصول إليها بوصفها شاهدًا حيًا على إرث المملكة العريق، وعلى دورها الفاعل، وموقعها البارز على خريطة الحضارة الإنسانية حيث إن المملكة تمتلك جميع المقومات التي تجعلها في مصاف الدول السياحية في العالم، إضافة إلى أن المملكة تعيش مرحلة التحدي الأكبر في تعريف العالم للهوية السعودية الحقيقية، بتنوعها الثقافي الغني وبشعبها الوفي.. حيث إنّ السياحة هي أحد رهانات المستقبل في المملكة وفق المعطيات التي بين أيدينا اليوم، والذي يمكن أن نطلق عليها فيما بعد النفط الأبيض الجديد في السعودية العظمى.