يقول المثل الشعبي: "ما تعرف قيمة الشيء إلا إذا فقدته". وهو مثال واقعي ينطبق على كثير من الأشياء التي كانت تبدو بدهية ثم فقدها المجتمع بعد جائحة كورونا. مثل: الحدائق العامة والنوادي الرياضية والمقاهي ومضامير المشي ومجمعات المطاعم الحديثة، فقد كانت تعد من مظاهر الترفيه وقضاء أوقات الفراغ قبل كورونا، ثم أكدت الجائحة أنها كانت تمثل بنية تحتية اجتماعية حرجة، وليست وسائل ترفيه فقط وقضاء وقت الفراغ، وذلك لأنها كانت رمزًا للعلاقات الاجتماعية والملتقى العابر للمعارف أو الغرباء، ومنصة تفاوض وعقد اتفاقات، وأن البلديات كانت تقوم بدعم لوجستي ودور سياسي وأمني ناعم، يُرى على شكل لوحة فنية ومظاهر اجتماعية طبيعية. وتعد العلاقات الإنسانية المبنية على التقارب الجسدي والسلام بالمصافحة والعناق، ولقاءات الأسرة والأصدقاء بل والغرباء في الأماكن العامة لأوقات قصيرة، من أهم عادات المجتمعات العربية المتوارثة التي قلصها كورونا المستجد، وما يزال مستقبل عودتها إلى ما كانت عليه غير واضح، ويقع على عاتق البلديات إدارة الصورة الذهنية الجديدة من خلال إدارة العلاقات الاجتماعية إضافة إلى إدارة المرافق العامة بما يحقق حزمة من الأهداف الجديدة من الأماكن العامة وليس الهدف الأساسي فقط، ويضمن تجنيب الناس التعرض لأي مهددات صحية. وهي مهمة عميقة ومعقدة بوصفها مسؤولة عن رسم مستقبل جديد، وإعادة تشكيل للعادات الاجتماعية. تشير صوفيا ياركر، أستاذ الجغرافيا البشرية في جامعة مانشستر، في مقالة بعنوان "الدور المتغير للبنية التحتية الاجتماعية في ظل الاستجابة لجائحة كورونا" إلى كمية القلق الذي أصاب أفراد المجتمع بعد السماح بعودة الحياة إلى طبيعتها باشتراطات التباعد الجسدي وتحديد عدد الأشخاص المسموح لهم بالتجمع في أماكن اللقاءات العامة، وتشير إلى أهمية إعادة بناء البنية التحتية الاجتماعية المتمثلة في نوع العلاقات الحميمية المبنية على اللقاء وجهاً لوجه في الأماكن العامة كالمقاهي والحدائق بعدما تهشمت بسبب الجائحة، كما يعاد بناء البنية التحتية الحرجة إذا تحطمت كالطرقات والكهرباء. وتحاول أن تتساءل عن مستقبل اللقاءات القصيرة في المساحات المشتركة بين الأفراد. وتدعو للتركيز على دراسة البنية الاجتماعية الحرجة من أجل فهم الدور القادم للحدائق والنوادي الرياضية والمقاهي وأماكن اللقاءات العابرة العامة، خاصة أنها سوف تنتج أنماطًا جديدة من التفاعل ليست معروفة قبل جائحة كورونا. إن تنبيه صوفيا ياركر إلى مسألة ظهور بنية اجتماعية حرجة، يؤكد أن عودة الحياة إلى طبيعتها بشكل تدريجي، والعودة بحذر لا تعني انتهاء إدارة الأزمة، بل تعني بشكل كبير تحول الوضع من إدارة أزمة أمنية وصحية إلى بناء الصورة الذهنية، وانتقالها من وزارتي الداخلية والصحة جزئياً إلى أمانات المدن، التي يفترض أنها تمر الآن بمرحلة انتقالية خطرة ولا تتكرر، والتنبه للمرحلة فرصة للانتقال بالمجتمع بسلاسة من خلال تصفية العادات القديمة وبناء عادات جديدة وتوسيع نطاق الاقتراب من المجتمع من خلال اكتشاف الفضاءات العامة كالحدائق ومضامير المشي وتجمعات المطاعم والمقاهي الحديثة وفق المستجدات الاجتماعية والصحية والأمنية، من خلال دليل استخدام الأفراد والأسر، وإدخال بعض التصاميم الجديدة على الأشجار والممرات مثلاً والتي تجمع بين الجمال وتحقيق التباعد بطريقة تبدو طبيعية في حين أنها مقصودة، إضافة إلى اختراع فضاءات اجتماعية جديدة مثل الاستمرار في عمليات تأهيل الأودية، وتفعيل وتحفيز الأرياف لإعادة إنتاج اقتصاد القرية ونظم حياتها القديمة وتحويلها إلى نقاط سياحية تنقل الهوية للخارج، ودعم مؤسسات المجتمع المدني وتوسيع مجالات نشاطها ومأسسة الأعمال التطوعية والهوايات التراثية كالصيد والغوص.