سلوك التخطيط دائماً ما يصافح البدايات الجديدة، فهو معبرٌ منطقي للوصول والتحقيق، ومسكّن لآلام القلق والحذر، ومُحفز فعّال لغريزة الاستدراك حين تواجه حتمية المجهول ومسؤولية القرار. ولكن في ذات الوقت، قد يكون ثقباً مظلماً تنعدم فيه المعاني وتتوقف عنده عقارب الإنجاز أو دائرة مفرغة تُطحَن في رحاها الدقائق والساعات. فمرحلة التخطيط ملهية ساحرة.. تأسرك إلى حد التعود وربما الإدمان، وتُفكك لديك عُقد الأفكار وشربكة المجهول، وترويك كأس المعرفة الأبجدية، حتى إن ارتويت.. حبستك هناك. يميل المفرطون في التخطيط إلى الدوران حول محور الجاهزية والسعي في طريق الكمال الوهمي إلى المالانهاية. رغم أن مفهوم الجاهزية والكمال هو في الحقيقة ديمومة مستمرة لا تحيطها حدود المرحلة بل متجاوزة من خلال التطوير والاستمرار. فالخطة الكاملة، هي الخطة الحية القادرة على التطور والتحسين المستمر. هذا العجن المفرط لمقادير الهدف يثقل قوام الحركة ويعيق ركب القافلة للمسير نحو الغاية ويحرمك متعة الاكتفاء، فبقدر ما تفرط في الخطة بقدر ما تصبح فاقداً للمرونة والتغيير. ليس ذلك وحسب، بل وبسبب العشرية البشرية فينا، تتكون روابط وثيقة بالوسيلة تحيدنا عن النتيجة، وتبتلينا بالتعلق والوقوع في شِراك الجهد الأول، في فخ الخطة. في الواقع، التعلق الهوَسي بالخطة، يجعل منها «شِراك» أمان عوضاً عن كونها «شباك» أمان تحملك في رحلتك للمجهول. مما تدفع الإنسان أحياناً إلى استهلاك جُرع معلوماتية زائدة بدافع الحرص والخوف من التقصير والإخفاق. هذا التعلق والإسراف في معنى التخطيط، تجده جلياً في المشروعات، الأعمال، المبادرات وحتى القرارات الشخصية، والتي تستنزف الموارد والإمكانيات وتسمم التفرد والإبداع. أصبحت الخطة هي ذاتها في حاجة إلى خطة، والمشروعات الطموحة حبيسة جدران الاجتماعات والاحتفال بالوسيلة أصبح الإنجاز! لذلك وجب أن نتعامل مع الخطة بلغة جديدة معاصرة، تستوعب تسارع الأحداث، وتستجيب للمتغيرات، وتحقق التطلعات والمستهدفات. بل من المهم أن ننتقل من العقلية التقليدية التي تبتدئ بالتخطيط، والتحسين ثم التنفيذ، إلى إيقاع متناغم يرتكز على منهجية المبادرة أولاً ثم التعلم والبناء. بل ومن المهم تضمين المرونة والتكيف، والتعايش مع فكرة اللاكمالية وحتمية المجهول، كقيم تُعرِّف نهج التخطيط للمستقبل اليوم. وأخيراً.. خيط رفيع ذلك الذي يفصل بين الاقتصاد والتبذير في التخطيط، ف»التخطيط المفرط يقتل الإبداع» ويحرم الأفكار من الإشراق والانطلاق نحو التحقيق والتميز.