تمتلك الأمة حضارة واسعة النطاق في جميع التخصصات، وتراثاً عظيماً عاشت عليه فترة طويلة، وتناولته أيدي العلماء بالشرح والتوضيح والزيادة والإضافة، وهذا كله في مختلف ميادين المعرفة منذ ظهور الإسلام وإلى عصرنا. لا يشك أحدٌ في قيمة كتب التراث وأهميتها، فهي أشبه ما تكون بالعطور الفاخرة التي يضعها الشخص قريبة منه، ويستنشق رائحتها وطيبها، ولا غرو أيضاً حينما ينادي بعض المعاصرين بتطويرها، فكما أن السلامة في الرجوع إلى هذه الكتب عند المهتمين بها فكذلك من تمام السلامة وكمالها عند آخرين إعادة صياغتها وشرحها بما يناسب الزمن الحالي. هذا التطويرُ يتفق مع قاعدةٍ مهمة، وهي أنّ سبيلَ الصلاح في المحافظة على القديم الصالح، والأخذ بالجديد الأصلح، فإذا كانت هذه الكتب صالحة لأناسٍ فيما مضى فينبغي علينا أن نجعلها أصلح لأوقات قادمة، حيث تقتضي العقلانيةُ الإضافة والتنقيح وملائمة الواقع. تحتوي بعض هذه الكتب على مسائل ووقائع في حاجة إلى النقد، وهذا بطبيعته لا يمنع الاستفادة منها، ولا يستلزم أن تكون محصنة عن الردود أو التعقيب، فمراجعة الأفكار ونقدها أولى وأجدى من تركها بالكلية، أو تسفيه كاتبيها، أو الطعن في قائليها، أو الحكم عليها بأشنع العبارات، وإنّما الفكر ينقد بالفكر. تكمن الوسطيةُ الإسلامية في الموازنة بين العقل والنقل، وفي التأليف بين النقل الصحيح والعقل الصريح، فتقرأ العقلانيةُ المؤمنة النقلَ بالعقل، وتحكم العقلَ بالنقل، وتنفي تناقض النقل والعقل؛ لأنّ نقيض العقل ليس النقل وإنما الجنون! يتفرع على هذا قراءة بعض المعاصرين لكتب التراث، وأخذ أقوال بعض العلماء من خلال كتابات كتبت في مرحلة زمنية من حياتهم، قد تكون في لحظات محنة أو سنين توتر، أو سُطرت في وقت له ظرفه، والعمل على محاكمتهم بما كتبوا في هذه المرحلة الزمنية المحدودة من سني عمرهم، وهذا كله لا يتوافق مع القراءة العقلانية للتراث. يقتضي المنهاج العلمي في مثل هذه الحالة الوصول إلى فكر الشخص وعدم اجتزاء كلامه أو فكرته، ولن تكون إلا بالقراءة الكاملة والمتأنية في بعض المرات لكتبه ومؤلفاته بغية الوصول إلى مشروعه وأقواله الأخيرة التي استقر عليها رأيه. إنّ إهمال هذا المنهج الشمولي في القراءة التراثية هو في حد ذاته إهمالٌ للمنهاج العلمي الأصيل مع ضرورة التأكيد أنها كغيرها كتبٌ ليست معصومة، فيؤخذ منها، ويرد عليها.