لا يختلف اثنان على أن العلاقة الأوروبية - الأميركية وصلت إلى أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية، فبعد علاقة وثيقة ممتدة لعقود بين دول ال "محور الغربي" الذي يجمع الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية في علاقة تاريخية لم تأثر عليها المتغيرات السياسية في طرفي العالم، بتنا نسمع من أهم زعماء أوروبا، المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قولها إنه على أوروبا التفكير جيداً في مكانتها في الواقع الجديد الذي لم تعد تسعى فيه الولاياتالمتحدة إلى أن تكون قوة عالمية. لتشخّص المستشار الألمانية الوضع الأميركي كما هو بدقة شديدة فتقول "الولاياتالمتحدة تريد أن تتوقف عن أداء دورها كقوة عالمية بإرادتها الخاصة وبالتالي يجب علينا التفكير في هذا الموضوع بشكل عميق". ليذهب البعض إلى القاء اللوم في تدهور العلاقات الأخير على الرئيس ترمب، والاعتقاد بأن الشرخ ما بين أميركا والحلفاء الأوروبيين بدأه الرئيس ترمب حين طلب مراراً من ألمانيا زيادة إنفاقها على حلف الناتو لتحمي أوروبا نفسها بنفسها، ثم أمره القاضي بسحب آلاف الجنود الأميركيين من أوروبا، وأخيراً العقوبات التي تعتزم الولاياتالمتحدة فرضها على أوروبا بسبب مشروع "نورد ستريم-2" الخاص بنقل الغاز الروسي الى ألمانيا. إلا أن العقوبات الأخيرة المتعلقة ب "نورد ستريم -2" وقرار أميركا بالتوقف عن لعب دور عالمي جاء من أروقة صنع القرار لدى الحزب الديمقراطي الأميركي، قبل أن يعزز الرئيس ترمب هذا الواقع عبر الإعلان عن اعتقاده بأن أميركا لا يجب أن تدفع الأموال وتقتل أبناءها لحماية الآخرين، فالرئيس السابق باراك أوباما وإن كان تعبيره عن الواقع الجديد قد أتى بكلمات مختلفة عن تلك التي يستخدمها الرئيس ترمب إلا أنه كان قد قال صراحةً بأن أميركا لن تكون شرطي العالم بعد حقبة بوش وخطيئة "حرب العراق"، كما أن عقوبات "نورد ستريم - 1" ثم "نورد ستريم-2" خرجت من مجلس النواب بتوقيع من أعضاء ديمقراطيين وجمهوريين يرون أنه عبر العقوبات يجب أن تحارب أميركا مناوئيها مثل روسياوالصين وطموحاتهم للتمدد في مناطق ودول لطالما اعتبرتها أميركا حليفة لها. أوروبا المجاورة للشرق الأوسط، والتي دفعت أكبر الأثمان بسبب انتشار الفوضى في دول ما يسمى ب "الربيع العربي" حيث أصبح وصول المتطرفين إلى الشواطئ الأوروبية أسهل من أي وقت مضى، بدأت تشعر بضرورة إعادة تقييم علاقاتها وتحالفاتها، فعلى الرغم من أن أوروبا هي متضرر أكبر من الولاياتالمتحدة من النفوذ الروسي وطموحات الرئيس بوتين بتعظيم النفوذ السياسي لموسكو، وعلى الرغم من أن حلف الناتو كان قد تشكل أصلاً لحماية الأوروبيين من أطماع وطموحات "الاتحاد السوفييتي"، إلا أن أوروبا وعلى مدار العقد الأخير بدأت تشعر بالقلق من تخاذل الولاياتالمتحدة عن مواجهة ما تعتبره أوروبا خطر وجودي يهددها، فأميركا البعيدة عن الشرق الأوسط والتي بقيت حذرة من التوغل لحل الصراعات التي أنتجها "الربيع العربي" والتي لم تؤثر في أميركا مثلما أثرت في أوروبا، دفعت أوروبا للتفكير بمصالحها وتحدياتها الأساسية خاصة تلك القادمة من "الشرق الأوسط"، المنطقة التي باتت روسيا لاعباً أساسياً ومؤثراً في سياساتها من سورية الى ليبيا. فأمام تهديدات أردوغان للأوروبيين بإغراق أوروبا باللاجئين غير الشرعيين دون تنسيق مع جيرانه الأوروبيين ودون أي تمييز أو فرز حقيقي بين من هو لاجئ ومن هو إرهابي يتحين فرصة الوصول إلى أوروبا لتنفيذ هجمات أرهابية، وجدت أوروبا حليفها الأميركي الذي بدأ ينسحب من المنطقة منذ قرابة العقد من الزمن يقف مكتوف الأيدي، ولا يملك الأدوات الكافية للضغط على تركيا، بينما تظهر روسيا للأوروبيين والعالم من خلال دورها المحوري والواسع في سورية بأنها سيدة لعبة الفوضى في سورية والتي يستخدمها أردوغان لابتزاز الأوروبيين، فنفوذ روسيا على الأرض وإمساكها بخيوط اللعبة السورية كفيلين بالضغط على أردوغان، فروسيا تمكنت من إسكات الرئيس التركي وجعله يستمر بالوقوف على أبواب الكرملين طالباً الرضا حتى بعد مصرع العشرات من جنوده على يد جيش النظام السوري. وعلى نفس المنوال في ليبيا، تقف أميركا على مسافة مما يحدث، فلا تتحرك للتعامل مع التهديدات المحدقة بالدول الأوروبية بسبب الميليشيات المتطرفة التي هي مزيج من المرتزقة الذين أرسلهم أردوغان لارتكاب الجرائم في ليبيا المجاورة للشواطئ الأوروبية مقابل حفنة من الدولارات، وبقايا تنظيمات متطرفة انبثقت عن الحرب السورية، لتجد أوروبا في ليبيا أيضاً أن التنسيق مع روسيا سيكون أكثر نفعاً للأمن القومي الأوروبي من انتظار بيانات أميركا المدينة لاردوغان بينما يقترب ارهابيو أردوغان أكثر وأكثر من السواحل الأوروبية. يشرح «مايكل بريجنت»، ضابط الاستخبارات الأميركية السابق، والباحث البارز بمعهد هدسون لجريدة "الرياض"، التحول الذي يطرأ على السياسات الخارجية للولايات المتحدة، يحركه هوى الناخب الأميركي الذي لم يعد يرغب بانتخاب صناع قرار تدخليين في الشرق الأوسط، إلا أن بريجيت يرى أن المواطن الأميركي لا يعرف تماماً كيف يجب أن يتم توجيه سياساتنا الخارجية وأين تكمن مصالح الأمن القومي الأميركي، قائلاً: "أن الولاياتالمتحدة وبعد أن بدأت بسياساتها الانعزالية والانسحاب من الشرق الأوسط، بدأت كل من الصينوروسيا بملء هذا الفراغ لتصبح السياسة الأميركية تركز على كيفية إخراج روسياوالصين ومنعهما من الاقتراب من الشرق الأوسط، والسياسة كما نرى قائمة على العقوبات"، مضيفاً "الوقت تأخر لمنع الصينوروسيا من التدخل في المنطقة عبر العقوبات وحدها، فالصين حصلت على عقود كبيرة ومهمة تتعلق باستثمار مصادر الطاقة في العراق، وتستمر بتوسيع نفوذها في إيران وسورية في هدف يتركز حول السيطرة على مصادر مهمة للطاقة لتؤمن إمداداتها وتتحكم بالسوق وتستفيد من ذلك على الصعيد الجيوسياسي وبالتالي استراتيجية "العقوبات" لم تعد تكفي لوقف هذا النفوذ". وأضاف: "روسياوالصين تحاولان باستمرار كسر حظر السلاح على إيران ومساعدتها لتخطي الضغوطات الأميركية، إلا أن إدارة ترمب تحاول أن تصعّب الأمر على القوى الأخرى الأمر الذي ينجح حتى الآن بحرمان طهران ونظامها من الموارد لتمويل ميليشياتها، لافتاً إلى أن إيران دفعت مؤخراً لكتائب حزب الله في العراق "خواتم فضة" بدلاً من منح المقاتلين أموال مقابل قتالهم، ما أغضب الميليشيات إلا أن المتغيرات المتمثلة بمحاولات روسياوالصين مساعدة إيران يجب أن تدفع الولاياتالمتحدة لاعادة التفكير في استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط". ففي سورية أيضاً، التي تستهدفها أميركا مؤخراً بالعقوبات يقول بريجينت، إن النفوذ الروسي الكبير فيها جعل روسيا والنظام قادرين على توجيه المتغيرات الجيوسياسية بشكل يضمن بقاء الأسد، فالعقوبات الأميركية لا تهدف أصلاً لإسقاط الأسد بل الضغط على النظام والمحيطين به للقبول بإجراء انتخابات تحت عنوان "الانتقال السياسي" إلا أن التوزيع الديموغرافي الجديد في سورية والذي أرسته روسيا قد يمكن الأسد من الفوز في هذه الانتخابات. ويقول بريجينت، تغير سياساتنا الخارجية وعدم ثباتها وضمانها لتحالفاتنا لا يتوقف على التأثير علينا من ناحية أعدائنا فقط، بل من ناحية الحلفاء والأصدقاء أيضاً، فبينما تبني كل من روسياوالصين اللتان يحكمهما نظام واحد منذ 30 سنة على الأقل علاقات ثابتة في الشرق الأوسط والعالم، تتغير سياساتنا الخارجية كل بضعة سنوات مع تغير الإدارات بينما يتوسع النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط بشكل بات مغرياً للدول لإقامة التحالفات مع منافسينا الذين يملؤون الفراغ بينما نخرج من الشرق الأوسط، ويقول "أحد المسؤولين العرب أخبرني قبل سنوات أن أصدقاءنا الجدد لا يطلبون منا تغيير سياساتنا وليست لديهم شروط وظروف خاصة لعقد العلاقات معنا وكان يقصد الصينوروسيا". ويفيد بريجينت بأن جائحة "كوفيد - 19" وحدّت الجمهوريين والديمقراطيين أمام إدراك خطورة الدور المشبوه للصين، متوقعاً أن يقوم الرئيس ترمب بضرب الصينوروسيا بالعقوبات قبل الانتخابات بفترة قصيرة. ولكن في المحصلة يرى بريجينت، أن الأمن القومي والمصالح الأميركية يتطلبان من واشنطن التمسّك بدورها المحوري في الشرق الأوسط، والحفاظ على نفوذها السياسي في المنطقة، وبرأيه أن إعادة انتخاب الرئيس ترمب قد يدفعه لاتخاذ قرارات أكثر جرأة على صعيد السياسات الخارجية وقد يكون أمراً جيداً وإيجابياً بالنسبة للحلفاء في الشرق الأوسط. وأشار إلى أنه حتى إذا فاز بايدن، فإن إيران وهي محور مهم في سياساتنا الخارجية للشرق الأوسط، ستكون ضعيفة للغاية ومنهكة بسبب العقوبات وستكون مجبرة على التفاوض وتقديم التنازلات، إلا أن إدارة بايدن قد تكون ضعيفة نوعاً ما وسيكون خبر فوز بايدن ساراً لروسياوالصين وخاصة فيما يتعلّق بطموحاتهم في الشرق الأوسط.