وخلاصة القول في هذا الشأن: أجمعت الروايات كلها على أن عبد العزيز لم يحارب الأتراك، بل كانت الفكرة السائدة بين رجاله: أنه لم يحارب تركيا، وأن ذلك من مفاخره وما يُذْكر به، فيُشْكر عليه. بل أكثر من هذا وأعظم مروءة: أكد عبد العزيز حرصه على تأكيد تلك العلاقة الخاصة التي تربط المسلم بالجندي العثماني حتى إن كان كارهاً، ولهذا عندما تمكن من كسر شوكتهم وطردهم من بلاده نهائياً إلى الأبد إن شاء الله، في معركة الشنانة التي حدثت في 18/7/122ه، الموافق 29/9/1904م، حذَّر جنوده بلهجة واضحة صريحة: (لا تنزعوا من الجندي العثماني سلاحه)؛ فحملهم على ركائبه، وأرسلهم مكرمين في خفارة الأمير أحمد بن ثنيان الذي عاش في تركيا ويجيد اللغة التركية، بعد أن جمَّد الرُّعب من ابن سعود الدَّم في عروقهم.. لكن للأسف الشديد، عندما وصل أولئك البحرين، وجدوا من شجَّعهم على العودة واستخدام السلاح الذي تصدَّق به ابن سعود عليهم ضدَّه. ألا تذكرون أني أؤكد لكم في كل مرة أن الأتراك لا يرعون العهود؟ بل هم قوم ديدنهم الغدر والخيانة والطعن في الظهر. أسوق هذا الحديث حتى لا ينخدع أحد من أولئك السُّذج بأن تركيا جاءت فعلاً نصرة لهم وخدمة للإسلام ونجدة للمسلمين كما يتوهمون. فالتاريخ يؤكد لنا أنهم قوم لا إلاًّ لهم ولا ذمة، وأنهم كسالى يريدون أن يعيشوا على عرق الآخرين من خلال بسط النفوذ وإحكام السيطرة تحت شعارات براقة لم تعد صالحة اليوم لدغدغة غير السُّذج المغفلين. وإن كنت لا ألوم تلميذ أتاتورك الذي (أستترك) أكثر من معلمه العلماني، في بحثه الشره عن موارد خصبة لتلبية حاجة شعبه الكسول من المال لينعم بالملذات، وأطغاث الأحلام التي تعشِّش في خياله المريض باستعادة (مجد الخلافة الغابر) من خلال سعيه المحموم لشراء الذِّمم بثمن بخس، وإقامة قواعد عسكرية (عثمانية) في العراق، سورية، قطر والصومال؛ ومواصلة مساعيه الحثيثة لإقامة قاعدتين في كل من أثيوبيا والسودان، ظنَّاً منه أنه بهذه الطريقة يكون قد أطبق الخناق على دولة الرسالة لكي ينقض عليها في اللحظة المناسبة ليسطر على الديار المقدسة، ومن ثمَّ يعلن نفسه خليفة للمسلمين؛ فيجلس في قصره العالي الذي يتألف من أكثر من ألف غرفة، ليأتيه الخراج رغداً من (الولايات العثمانية) كسائر سلاطين بني عثمان وخلفائهم. أقول: لا ألوم رجب طيب أردوغان الذي ليس له من اسمه أدنى نصيب، إلا أن ما يُدْمي القلب حقاً هو انسياق بعض أشقائنا، أبناء جلدتنا خلف سراب أوهامه وأضغاث أحلامه والعمالة له؛ فها هي دولة قطر - التي كانت ذات يوم شقيقة - أبعدت النجعة بينها وبين محيطها العربي، وتنكَّرت لكل القيم والأخلاق الحميدة التي تطبع شخصية العربي الأصيل، عندما فتحت البلاد على مصراعيها لأعداء الأُمَّة من بقية الصفويين وبقية بني عثمان. وأوقفت ميزانيات هائلة لمنصات إعلامية داخل البلاد وخارجها من (قناة الفتنة وأخواتها)، إلى مرتزقة الإعلام الذين ينعقون لكل من يدفع أكثر، إلى شيوخ الفتنة الذين هم على استعداد تام للعق أحذية من يدفع لهم أكثر كما أكد سيف الإسلام القذافي، مندهشاً من تحول زعماء (الإخوان المسلمين) - المسيطرون الحقيقيون على (قناة الفتنة) بشهادة حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء قطر الأسبق، وزير الخارجية، وأحد الحمدين - الذين صبُّوا جام غضبهم على والده وعليه إثر اندلاع جمرة (الخريف العربي) في ليبيا قبل أن ينفد ما حصلوا عليه من أموال وعطايا من القذافي. فاسمعوا يا رعاكم الله، هذا تلميذ أتاتورك يخاطب نوابه مؤكداً: (إن تركيا هي أكبر من تركيا الحالية، يجب أن تعلموا هذا جيداً، لا يمكن أن نكون محاصرين في 780 كيلو متراً مربعاً، هي مساحة تركيا الفعلية، لأن حدودنا الجسدية والقلبية مختلفة.. وصحيح، قد يكون إخواننا في الموصل، كركوك، الحسكة، حلب، حمص، مصراتة، سكوبي وأرض جزيرة القرم كلها، قد تكون خارج حدودنا الفعلية، إلا أنهم ضمن حدودنا العاطفية، وفي قلوبنا. وعليه سنتخذ كل التدابير اللازمة ضد أولئك الذين يحاولون تحديد تاريخ تركيا وأمتنا بتسعين عاماً - أي ما بعد الدولة العثمانية - كما أننا سنعيد النظر في الكتب المدرسية بداية من التعليم الابتدائي. نعم، ينبغي علينا اتخاذ كل التدابير الضرورية لكي نربط أمتنا بثقافتها وحضارتها وتاريخها - أي العثماني). أجل، هذا هو الوجه الحقيقي لأردوغان الذي طالما حاول جاهداً إخفاءه خلف قناعه الزائف بدغدغة مشاعر السُّذج وتوظيف الجهلاء الخونة لتنفيذ أجندته الخبيثة وتحقيق أوهامه باستعادة مجد أجداده الغابر. وكما أسلفت، معذور تلميذ أتاتورك لأنه يبحث عن مصالح (إمبراطوريته ومجدها الآفل)، غير أن العتب علينا نحن العرب الذين تفرقنا مذاهب شتى حتى في البلد الواحد، إذ تجد في بعض البلدان العربية للأسف الشديد، نحو (150) حزباً سياسياً وأكثر من (50) حركة مسلحة، كل حزب يتجه شرقاً أو غرباً، وكل حركة مسلحة تقاتل أهلها أو أختها بسلاح تجار الحروب وسماسرتها مثل أردوغان هذا، مدفوعين بجهلهم بالدِّين وسذاجتهم وشرهم لجمع المال من حرام وحلال.. لا يهم، المهم أن تنتفخ أوداجهم وتمتلئ جيوبهم. وصحيح، كتبت كثيراً عاتباً على جامعة الدول العربية بصفتها بيت العرب والكيان الوحيد الذي (يُفْتَرض) أن يضم الجميع، طالباً إليها بصوت ملايين العرب أن تفض سيرتها، ومن ثمَّ تفكر في آلية تحفظ للعرب حقوقهم وتجعل مثل هذا الأردوغان يرعوي ويخشى مجرد رسالة منها ولو مقتضبة. كما يمكن توسيع هذه الآلية بشراكة جادة مسؤولة مع شركاء آخرين ممن يعانون مثلنا وإن كان بطريقة مختلفة، كدول الكاريبي وأمريكا اللاتينية وآسيا. وبالطبع لا يفوتني هنا أن أشير إلى إهمال العرب للدول الإفريقية السمراء التي حزَّ في نفسها عدم تواصلنا معها، فتحزَّبت شرقاً وغرباً، تماماً كما فعلت أحزاب بعض البلدان العربية، مما جعلنا نخسر قوة فاعلة مؤثرة. وصحيح أيضاً أنني أدرك صعوبة المهمة، إلا أنني في الوقت نفسه، أدرك أنها غير مستحيلة، وتستحق منَّا كل ما يبذل فيها من جهد وتعب وعرق، وما يصرف فيها من أموال؛ فلدينا كل الإمكانات المطلوبة، ونفتقر فقط إلى إرادة سياسية جادة صادقة مسؤولة، تعي ضرورة العمل الجماعي، على الأقل فيما يتعلق بتأسيس آلية ذات أسنان قوية حادة للدفاع عن الكل ضد أي تهديد خارجي، بل أيضاً حسم أي منازعات تظهر لا قدر الله، داخل البيت العربي.. إن كنَّا قد فعلنا هذا من زمان، لتفادينا اعتداء صدام حسين على الكويت وما جره على المنطقة من خراب ودمار ما يزال لهيب ناره يصلي الجميع؛ ولكنَّا اتخذنا مكانتنا اللائقة بنا بين المخترعين والمبدعين في العالم. لكن لأن الغرب لا يريد لنا غير أن نظل إلى الأبد مشغولين بهذه المعارك الجانبية، حتى نبقى عاجزين عن كل شيء، فنحيله (للكبار) ليلعبوا بنا كيفما شاؤوا، ويبتزونا لنهب ثرواتنا. وإلى ذلك الحين الذي نستطيع فيه الوصول إلى كلمة سواء، والاتفاق على آلية فاعلة ذات أسنان قوية حادة وعين حمراء حاسمة، تضع حداً في الحال لكل مهدد لقدراتنا ومقدراتنا إن كان خارجياً أو داخلياً.. إلى ذلك الحين، أُذكِّر تلميذ أتاتورك - الذي استترك أكثر من معلمه - على لسان المؤسس الملك عبدالعزيز بتلك المقولة الشهيرة التي أوجز فيها رؤية تركيا تجاهنا نحن العرب: (اكتفيتم بأن تحكموا، وما تمكنتم حتى من ذلك. أردتم أن تحكموا العرب لتحقيق مصلحتكم، فلم توفقوا إلى شيء من هذا أو ذاك.. لم تنفعوهم ولا أنتم نفعتم أنفسكم). مقدماً لأردوغان وأمثاله تحليلاً دقيقاً لمأساة الدولة العثمانية. أجل، لقد تفرغ الأتراك لمهمة واحدة هي الحكم والحرب، فلم يحسنوا هذه ولا تلك؛ وكلما زاد عجزهم، اشتد بطشهم، فعجل ذلك بانهيارهم وأفول نجم إمبراطوريتهم.. ألحقوا الضرر بالعرب بإبقائهم متخلفين مختلفين متناحرين، ليصبحوا لقمة سائغة للقوى الأجنبية الاستعمارية. كما ألحقوا الأذى بأنفسهم بمحاربة العرب.. فانشغلوا وشغلوهم عن العدو الحقيقي لهما معاً وشتتوا انتباههم. وأختم بتأكيد جازم لأردوغان - وغيره من الطامعين فينا وكل من تسوِّل له نفسه الاعتداء علينا - إن أي أطماع بتعطيل دولة الرسالة عن أداء واجبها، تظل مجرد أضغاث أحلام، فصليل سيوفنا وضجيج مدافعنا وصهيل خيلنا في معركة الشنانة التي حدثت قبل أكثر من مائتي سنة، ما تزال تطرب مسامعنا وتثير الحمية فينا لردع كل من تسول له نفسه الاعتداء على مقدساتنا والعبث بمقدراتنا؛ فذرة رمل واحدة من ثرانا الطاهر، ترجِّح في ميزاننا بتراب الأرض كله.. فنحن قوم أصحاب رسالة، لا تجار دين وسماسرة حروب لاسترقاق الشعوب ونهب خيراتها وتسخيرها لخدمتنا كما يفعل الحمقى المغفلون... والسلام.