رحلت عن الدنيا لدار كنت تعمُرها.. ولم تأسف يوما على الدنيا وما فيها غادرت الدنيا بعدما تركت صفحات مضيئة.. كان دعاء حالك أبلغ من دعاء لسان مقالك، كنت تقوم الليل وما تركت قيامه أبداً، حتى مع شدة مرضك وأنت ملازمٌ للفراش توصيني بإيقاظك آخر الليل- إن أنت نمت - محافظ على سنة الضحى، وتابعت بين الحج والعمرة، وحضرت مجالس العلم والذكر، ومع كبر سنك ومرضك كنت تصوم يومي الاثنين والخميس.. متسامح تعفو عمن أخطأ بحقك... قليل الكلام فيما عدا ذكر الله والتهليل والتسبيح والاستغفار فلسانك رطب بذكر الله... لا ترضى ان يُذكر أحد بسوء في حضورك ويشتد غضبك في ذلك.. كنت تدعو بكل الأوقات «ربِ توفني مسلماً وألحقني بالصالحين» «يالله حسن الخاتمة» وما دعيت قط لنفسك ووالديك وذريتك إلا وأشركت المسلمين في دعائك، وما حزبك أمرٌ ألا واستعنت بالله على قضائه.. لا أذكر أنا قمنا من مجلسك إلا وتوصينا بالصلاة بقولك «الله الله بالصلاة لا تهاونون فيها».. كم مرة أوصيتني بحق الضعيف والصغير وعدم الظلم، وحين أكون معك لوحدي - وقد تجاوز عمري الخمسين عاماً - توصيني بالرفق ببناتي فإنهن ضعيفات - ولعل أبلغ وصية أوصيتني بها بعد الصلاة حين تخرجي وتعييني بالعمل الأمني وقبل مباشرتي للعمل (يا الله قبل ثلاث وثلاثين سنة وبنفس الشهر الذي توفيت فيه «شوال» (حط الله بين عيونك - «إياك ثم إياك والظلم فالظلم ظلمات يوم القيامة، ولا تغرك وظيفتك ومنصبك ولا تحابي كائناً من كان لجاهه أو قرابته أو صداقته فلن ينفعوك أمام الله) وتورد قول القائل: لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ فلم يمنعك حب الأبوة من التوجية والمناصحة بإسلوب يسعد النفس.. أنا على يقين بإذن الله أن دعواتك الصادقة لي ولبقية إخوتي وأخواتي فتحت لنا أبواباً من الخير، وكانت بفضل الله سبباً في حفظنا وتوفيقنا. مرضت واشتد عليك المرض وفقدت الذاكرة شيئاً فشيئاً حتى أصبحت لا تعرف من أبنائك أحداً، غير أن ذكر الله والصلاة والأذان والإقامة بَقيت تُرددها في كل حين.. قبل وفاتك بيوم وحين طلبت منك تأكل شيئاً يسيراً لأُعطيك أدويتك سألتني بصوت منخفض هل حان وقت الإفطار؟ تظن أنك صائم- ثم طلبت تمرة أو شربة لبن.. في صباح يوم الوداع ناديتني باسمي - فسبحان من أنطقك باسمي ولا تكاد توصف سعادتي حين ناديتني باسمي - وامرتني أن أتلو عليك شيئاً من القرآن وانت تردد الشهادة «لا إله إلا الله» ثم طلبت مني أن أضعك على جنبك الأيمن مع أنه منذ أكثر من شهرين لا تنقلب على هذا الجنب أبداً - ولا تزال تتشهد حتى فاضت روحك الزكية إلى بارئها فإلى جنة الخلد يا أبي. فكم سمعتك تردد هذا البيت: لا دارَ للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها غاب جسدك وبقي أثرك، رحلت وأنت لا تقرأ ولا تكتب، لكنك تحمل من العلم ما يضاهي ما يحمله كثير من المتعلمين لأنك حاضر القلب عند سماع القرآن والمواعظ ومجالس العلم والذكر. رحلت يا أبي وقلبي يتقطع ألماً على فراقك، وبكيت بكاء مراً فمن بعدك بهذا السن يأمرني وينهاني، ويوجهني ويوصيني على بناتي، ويدعو لي. رحلت يا أبي وأنا أعض أكف الندامة على وقتٍ كنت فيه بعيداً عنك لاهياً بعملي، فإلى جنة الخلد ويارب أجب دعوة أبي وألحقه بالصالحين وأجمعنا به في جنات النعيم إنك سبحانه قريب مجيب. «إنا لله وإنا إليه راجعون» اللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيراً منها.