لا يمكن للكتابة اليوم، أن تتجاوز حدث الكوني» كورونا» على الرغم من أنه على مستوى النشاط البشري وتداعياته عليها بات حدثًا مملاً، وكئيباً وكأنه طُبِخ حتى احترق على مستوى الكتابة دون أن يموت هذا الفيروس اللعين، لهذا لا تغادره الرؤى، ولا تفعل أكثر من مراقبته من دون حيلة وانتظار انعكاساته الوجودية، بيقينٍ خائفٍ ومستقبلٍ مرتبك، فلا تغادرنا صورة الكمامات التي تحيط بالوجوه حتى بتنا نتوجّس من غيابها في كل ما حولنا.. والقصيدة الغائبة في الأصل عن الطقوس الرمضانية ظهرت قبله بكمّام ثم استعارته كمّامًا لها كما يبدو، نعم يغيب الشعر غالباً عن طقوس رمضان، وكأن هيبة شهر الصوم المقدّسة تنكر على الشعر اتهامه التاريخي بالغواية.. على الرغم من حالة الاستثناء التي جاءت بها الآية الكريمة من أجل تبرئة الشعر من مطلقها، لكنّ ما نعرفه عن هذه القطيعة التاريخية تعميقها وتكريسها عن طريق ربط الشعر بها مطلقاً كما هو الحال لدى أحمد شوقي، حينما جعل من رمضان عائقاً نفسياً لحرية اللهو والشعر والسمر لديه بقوله: (رمضان ولّى..) لكن رمضان يعود في كل عام، والقصيدة تصوم فيه أيضاً. والطريف في هذا الشأن المتعلّق بغياب الشعر والشاعرية إجمالاً في رمضان ما ذهب إليه أولئك المناوئون للشعراء وقصائدهم فهم لا يرون في أشعارهم إلا الغواية في كل الأوقات، لذلك توصّلوا إلى تفسير نفسي وديني وأحادي لا يخلو من الطرافة، حينما آمنوا بمبدأ (شيطان الشعر) لدى كل الشعراء استنادًا على حبسه مع أقرانه من الشياطين في رمضان فيتوقف الشعراء عن كتابة غوايتهم، في ظل غياب شيطان الشعر لدى كلٍّ منهم، وهو جانب طريف ساذج لا يخلو من التندّر بالشعر والشعراء، على أني أرى أن الأمر كما يبدو لي أكثر عمقاً وأكثر رؤيا، يتمثّل في حالة الكتابة الشعرية المعاصرة ذاتها حينما تنشدُ المطلق في كل شيء، في النوم والسهر والأكل ومباشرة الحياة بشكل كامل من أجل خلق فضاءٍ شعريٍّ بلا قيود.. وبإمكان القصيدة حينها أن تتشكّل رؤيا على شكل فّقاعة في الفضاء، لايهمها أين ستنفجر؟ أو متى؟ أو من هم أولئك الذين سيتشاركون في استنشاق هوائها الرطب..؟ فالقصيدة المعاصرة كما يخيّل إلي تولد بلا ضوابط تأمّلية، وبلا حسابات زمنية، وبلا مخالجاتٍ روحية.. حالة من السكر الوجداني الخالص المتحرّر من الصحو، في حين أن الروح المسلمة متكيّفة دائماً مع خصوصية رمضان ومروّضةً لنفسها عليه فيما يتعلّق برغباتها ونزعاتها وحتى تأملاتها.. بينما القصيدة الحديثة الجادة لا تكون في أجمل حالاتها إلا حينما تتلبّسها حالة من تمرّد لاتأتي مع الترويض، فضلاً عن قلقها الدائم الذي لايتّسق مع السكينة الرمضانية حيث لا تشكِّل محضنًا لها، وينطبق هذا على كل حالات القصيدة الزمنية من أول التخلّق حتى آخر التلقّي.. ولهذا ربما يغيب الشعر في رمضان، ويحضر بعده حيث تعود الروح المتأمّلة من رحلة استسلامها المقدّسة لمناقشة الوجود، وقراءته بحالة من التمرّد المستفز، عله يكشف لها بعض أسراره مجدداً..!.