تتمثل فوائد السنين - عندي - في عدد من المجالات؛ الأكيد أن منها: السيرة الحسنة التي يحوطها العاقل بروحه وماله، وهي التي يسميها العربُ: «العرض» أو «الشرف»، حتى قال قائلهم: أصون عرضي بمالي لا أبدِّده لا بارك الله بعد العرض في المال أحتال للمال إن أودى فأكسبه ولست للعرض إن أودى بمحتال ومن فوائد السنين: الخبرة، والتي تزيد المرءَ حنكة وحكمة.. في الليلة السادسة والعشرين من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» ذكر التوحيدي عدداً من المقولات في هذا، منها: «غَنِمَ من أدبته الحكمة، وأحكمته التجربة» و»في التجاريب علم مستأنف» والخبرة رصيد يزداد ولا يتوقف، ولذلك قالوا: المرء ما عاش في تجريب. ومن فوائد السنين: تلك التي نعلقها من القراءة والمطالعة، وكم لهذه الفوائد من فوائد، ولذلك أحرص بين الوقت والآخر على مطالعة الفوائد التي علقتها في طُرَر الكتب، وبين يديّ الآن كتاب ساقني إلى هذا الموضوع «ثروة الأمم»؛ فبينما كنت أطالع الفوائد التي استخرجتها من كتاب «الاقتصاد» ل «بول سامويلسون» في طبعته الخامسة عشرة ولونه الأصفر وكان يجعل لكل طبعة لوناً خاصاً من اللون الأخضر إلى الأزرق ثم البني والأسود، ويقع في (800) صفحة تقريباً من القطع الكبير، رأيت فائدة سجلتها تتحدث عن كتاب «ثروة الأمم» لآدم سميث الذي ألفه العام 1776م، وهو كتاب حاز شهرة عظيمة، ويتحدث عن أمور اقتصادية بحتة من العمل والسوق والعملة وطبيعة الثروات.. إلخ. وبمجرد أن لمحت هذا العنوان «ثروة الأمم» انقدح في ذهني هذا السؤال: ما الثروة الحقيقية للأمم والشعوب؟ لابُدَّ - أولاً - أن نقول عن هذا السؤال: إنه سؤال جوهري وعميق، ويجب أن تواجه به كلُّ أمه نفسها. ولابُدَّ أن نقول ثانياً: إن الثروة الحقيقية للأمم تتبين وقت الشدائد، لكنها تؤسس وقت الرخاء، وإذا كانت معادن الرجال لا تظهر إلا وقت الشدائد، فإن ثروات الأمم - كذلك - لا تتبين إلا وقت الشدائد، فليست ثروات الأمم تلك التي نراها في الرخاء من المدنية، والرفاهية، والمظاهر الأخرى، ولكنها تلك الأخلاق التي تتجلى في الشدة. في المملكة العربية السعودية رأينا ثروتنا الحقيقية في أثناء هذه الجائحة «جائحة كورونا» تتمثل في الآتي: أولاً: العقيدة والإيمان، فإن الإيمان يُثَبِّت ويطمئن، ويزيد الإنسان فرداً وجماعة، قوة وشجاعة، يضمحل معها الخوف، وكلما قويت العقيدة في شعب قويت صلابته، واشتد موقفه تجاه الشدائد التي يواجهها. ولك أن ترجع إلى خطاب خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - لترى: كيف خاطب في شعبه عقيدته وإيمانه؟ ثانياً: ولاة الأمر.. فمن الثروات الحقيقية للمملكة ولاة أمرها الذين يتميزون بعدد من الصفات، فهم على المنهج الصحيح للإسلام في صفاء العقيدة والتوحيد، ولذلك تراهم - دائماً - ما يذكِّرون بهذه العقيدة؛ لأن ذلك دين أو، ثم لأن العقيدة ترفع من المناعة الداخلية لدى الشعوب تجاه المتغيرات التي تضرُّ بهم. ويتميزون كذلك بقدرتهم - بتوفيق الله أولاً وآخراً - على إدارة الأمور في الأزمات المتنوعة، والمملكة منذ تأسيسها واجهت عدداً من الأزمات، وكان من الأسباب التي يسرها الله للخروج من هذه الأزمات، حنكة ساستها وحكمتهم، فعبروا بشعبهم إلى بر الأمان؛ أزمة بعد أزمة. ثالثاً: ترابط الشعب وتلاحمه، ولن يترابط الشعب ويتلاحم إلا إذا انتشرت المحبة والرحمة في أنحائه، ولذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توثيق المجتمع بهذه المحبة والرحمة حين قال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) وقال: (مَثَل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى). رابعاً: الوعي، وهو من المرتكزات الأساس لثروات الأمم، فهو الذي يخبرك عن الترجمة الحقيقية لما تلقوه من تعليم على أرض الواقع، وهو الذي يخبرك عن مستوى التفكير لدى هذا الشعب أو ذاك، وهو الذي يخبرك عن المجلى الحقيقي للحضارة. وفي جائحة كورونا هذه: الوعي هو الذي يحدِّد مستوى تقيد المواطن بالإجراءات الاحترازية والوقائية، وهو الذي يحدِّد قدرته في التعامل مع الإشاعات بأنواعها، وهو الذي يرسم مستوى الخسائر عند الخروج من الأزمات. إن الوطن الذي يركز على رفع مستوى وعيه في أوقات الرخاء هو الذي ينجو وقت الشدة بحول الله، ونحن - بإذن الله - ناجون؛ لأنني لاحظت أن مستوى الوعي لدى شعبنا جيد، ومع ذلك يجب أن نعمل - دائماً - على رفع هذا المستوى عبر عدد من المجالات، وأن نخضعه للدراسة لنعرف أين نقف؟ إن مستوى وعينا هو الذي يحدِّد نقطتنا في الرسم البياني الحضاري بين الأمم والشعوب.