هذا الإنسان فعلاً سرعان ما ينسى ما مر به من لحظات ضعف وهوان، وعدم قدرة على التصرف حالما ينتهي أمد هذا الفيروس الغامض، فيعود لغروره وكبريائه، وطموحاته التي لا حدّ لها، وترجع إليه غريزة حب التملك والسيطرة.. الإنسان الذي يعيش وهم العظمة ويعتقد أنه ملك كل شيء، بعد أن استطاع أن يسخر الأرض والسماء لخدمته، وصل إلى الفضاء وأراد أن يستعمره، لم يترك شيئا ممكنا على الأرض أو السماء إلا وسعى لامتلاكه والاستفادة منه.. ملأ الأرض بمخترعاته وابتكاراته التي لم تعد تفرق بين الليل والنهار، كما ملأ السماء بالطائرات والأقمار الصناعية لتسهيل التواصل بينه وبين الآخرين من بني البشر، ولتسهيل مراقبتهم ومتابعتهم والتحكم فيهم كما يشاء. وفي غمرة اندفاعه وانطلاقه نحو التقدم والتقنية، واعتزازه بقوته وعظمته المزعومة بدأ يتحدث عن الهندسة الجينية وإمكانية صناعة قطع غيار بشرية تعويضية، بل تجاوز ذلك إلى الحديث عن الاستنساخ، وتأجير الأرحام، وتمكين الرجال الشواذ من الولادة، وعدم الحاجة إلى الدين، فالتقدم العلمي الذي يعيشه في الوقت الحاضر إذا لم يجب عن بعض الظواهر الكونية اليوم سيجيب عنها قطعاً غداً. وبينما هو يسير في هذا الطريق اللانهائي من الثقة المفرطة بنفسه، ويحث الخطى لتحويل بعض الخيالات العلمية إلى حقائق عمليه - كما يزعم ويتصور - حتى وإن كانت تتعارض مع الحقائق الكونية الإلهية.. إذا بكائن صغير غير مرئي ينتشر بسرعة البرق في كل مكان، فلا يفرق بين غني أو فقير، صغير أو كبير، دولة عظمى، أو من دول الظل، فيجلب الرعب لهذا الإنسان المتكبر، فيفقده في لحظة هذه الثقة العمياء بنفسه، وينزع منه جبروته وكبرياءه الذي كان يفتخر به في كل تصرفاته. توقفت حركة الطائرات والسيارات، بل توقفت الحياة في معظم دول العالم خوفاً من هذا الكائن الغريب، وبقي هذا الإنسان العجيب عاجزاً أمام هذا الكائن الخفي. لم يفلح التقدم الصناعي، ولا الحلول التقنية، ولا الهندسة الجينية، ولا الاكتشافات الطبية في التعامل معه ومنع انتشاره، فأخذ يحصد الأرواح، ويعطل الحياة، ويوقف عجلة الاقتصاد في كل مرافقها.. تلاشت القوة العسكرية والأسلحة النووية وأصبحت في مهب الرياح، ولم تفلح الهيمنة الاقتصادية في الاستحواذ عليه، ولم يعد هناك هم لدى هذا الإنسان إلا كيف يمكن التعامل مع هذا الزائر الثقيل غير المرئي، ومن أين جاء وكيف جاء. سبحان الله ما أضعف هذا الإنسان، وأوهن قواه!، حينما يدخله الرعب والخوف، بالرغم من ادعائه أنه هو الأقوى والأكثر جبروتا في هذا الكون، وما أقوى تكبره وغروره حينما يعتقد أنه ملك كل شيء وسيطر على كل شيء، وأنه محور الكون، وأن كل شيء فيه خاضع لأهوائه ورغباته، وفي الواقع لو تأملنا تاريخ الإنسان لوجدنا أنه دائما يريد أن يكون في حالة ارتقاء وصعود لخدمة نفسه، وتحقيق راحته ورفاهيته، لا يريد أن يعترف بحقيقة ضعفه وهوانه أمام الأشياء المجهولة، كما لا يريد أن يعترف بأنه كلما ارتفعت درجة رفاهيته في الحياة الدنيا، كلما انحدر مستوى الطمأنينة والأمان والسعادة، وزاد من توتره وقلقه، وتشبث أكثر بالحياة، وأصبح أكثر خوفا من المجهول. نصوص القرآن الكريم المتعددة وفي أكثر من موضع تؤكد ما فطر الله عليه الإنسان من ضعف وهوان، فهو عاجز أمام أبسط الشهوات والمغريات في الحياة، وعاجز عن فك لغز المجهول والغيبيات مهما كانت بساطتها، وهو ضعيف الجسم، خلق ضعيفاً وسيعود ضعيفاً كما كان، قال تعالى في سورة الروم: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَة يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير) آية (54). ومع ذلك، فإن هذا الإنسان فعلا سرعان ما ينسى ما مر به من لحظات ضعف وهوان، وعدم قدرة على التصرف حالما ينتهي أمد هذا الفيروس الغامض، فيعود لغروره وكبريائه، وطموحاته التي لا حد لها، وترجع إليه غريزة حب التملك والسيطرة، والرغبة في التشبث بالحياة، وكأن شيئاً لم يكن. ما أحوجنا في هذه الأيام العصيبة التي نشهد فيها مدى ضعفنا وقلة حيلتنا، أن نتذكر كم نحن ضعفاء أمام الكثير والكثير مما هو موجود في هذا الكون الفسيح، وما أحوج الإنسان أن يدرك أنه مهما بلغ من التقدم العلمي والتطور التقني في كل المجالات، فهو لم يصل في الحقيقة إلا إلى القليل منها، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء:85).. فلنعد التفكير في أنفسنا، ولننظر في دواخلنا لنصحح ما نستطيع قبل فوات الأوان، وضياع هذه الفرصة الذهبية قبل أن تصبح مجرد ذكريات تاريخية لا معنى لها.