"ليكن معلوما، لم تكن البشرية أقل عزلة قبل "كوفيد-19"، كل ما هنالك أن مادة العزلة/الإنسان، قد انكفأت إلى كهفها، عوض التسكع في طرقات الكون، والتظاهر بوحدة البشرية" تمعن بروية في ملامح عالمنا اليوم، وهو يرزح تحت الظل الأسود المريع لفيروس غامض، تأمل ردود الأفعال المرتبكة، التصريحات المتناقضة، بيانات النعي المبكرة، راقب ملامح الساسة الثابتة القاسية، إذ تذوي تحت وقع القوة الفيروسية، - لا تهديدات اليسار أو مؤامرات اليمين يا للعجب - ليتبدى من خلفها وجه الإنسان الهش في أضعف حالته، مجسدا في الآن ذاته هشاشة هذا العالم، وزيف حصانته المزعومة. عندما هيأ رئيس الحكومة البريطانية برويس جونسون مواطنيه لفقدان أحبائهم، في بيان أثار صدمة عالمية، بدا وكأنه يطوي نحو أربعة قرون من الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، ماحيا مسيرة هائلة من الكشوفات العلمية والقفزات الحضارية، ليعيد بلاده إلى صيف لندن الكئيب العام 1665، ذلك الصيف الذي فقدت فيه عاصمة الضباب ربع سكانها جراء طاعون هائل، ودفنوا في حفرة كبرى لوقف سلسلة الموت. وربما لم يكن جونسون - الذي وقع لاحقا فريسة للوباء - يستحضر التجارب المرعبة التي مرت بها بلاده والعالم برمته في عصور سحيقة مع الأوبئة والطواعين، وهو يدلي ببيانه المخيف، إلا أن عبارته بدت مثل مانفيستو عالمي يلخص حالة اللايقين التي عصفت بالعالم وزلزلت الأرض الصلبة التي كنا نظن أنا نعيش فوقها. مذهل هذا الوباء في إعادة ترتيب الكون، وهدم رؤى استقرت لدهور، وخلخلة اهتمامات الإنسان، كما لو أن كوكبنا العامر قد كف عن الدوران، وأطفئت أضواء الحضارة بغتة، وعاد الإنسان لصيغته الأولى، قبل طفرات العقل البشري، كائن بدائي، يبحث عن استدامة الحياة فحسب، ضمن شروطها الأولى، مكتفيا بأول قاعدتين من هرم ماسلو الشهير للحاجات البشرية، متطلباته الفسيولوجية، وحاجته للأمان الفردي والعائلي، أما ما خلاف ذلك، فليس في وارد اهتمام البشرية في هذه الأوقات العصيبة. دروس هذه الجائحة ما تزال قيد الكتابة إلى أمد لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى، لكن لعل أهم العبر المستخلصة، فضيلة الإيمان المطلق بقدرات الخالق، والتواضع أمام سلطانه العظيم، ففي ذروة غرور البشرية بما أنجزته من كشوف هائلة لا يمكن إنكارها أو بخس قيمتها، وفي ظل إحساس هائل بالمنعة والصلابة، يأتي فيروس ضئيل، ليرج إمبراطوريات ويتحدى قوى عظمى، ويعيد الإنسان إلى المربع الأول، إلى كهفه القديم، وكم كان البير كامو رؤيويا وهو يقول في روايته الأيقونية، "إن كل ما يربحه الإنسان في معركة الطاعون والحياة، هو المعرفة و التذكر".