بلغة الارقام، صار"مرض تناذر نقص المناعة المُكتسبة"Acquired Immune Deficiency Syndrome، الذي يُشتهر باسمه المُختصر"إيدز" AIDS، الوباء الأسوأ في تاريخ الجنس البشري. فاق عدد قتلاه 20 مليوناً منذ سنة. ويُقدّر عدد حاملي فيروس"اتش أي في" HIV المُسبب، على الأرجح، للمرض، بنحو اربعين مليوناً. واذا استمر الحال على ما هو عليه راهناً، فمن المتوقع ان يقضي الإيدز على 60 مليون انسان مع حلول العام 2015، من الناحية النظرية، كل من يحمل الفيروس يسير في درب الموت، اذ لا دواء شافياً للمرض، ليس بعد. وتعمل الأدوية المتوافرة في الاسواق راهناً على ابطاء مسيرته، وكذلك خفض نسبة انتقال الفيروس إلى غير المصابين. لا يتوافر أي لقاح ضد ذلك الفيروس. وتُشير الإحصاءات إلى ان تسعين في المئة من حاملي الفيروس المميت يعيشون في الدول النامية، وخصوصاً في دول ما تحت الحزام الصحراوي في افريقيا التي تضم نحو 70 في المئة منهم. انظر الغرافيك: الإيدز موجة عالمية لوباء متفاقم. يتحدث الإختصاصييون عن"قنبلة الإيدز الموقوتة"التي قد تُحدث من الأذى ما لم تشهده عين البشر حتى الآن. وتتمثل تلك القنبلة في انفلات الفيروس الفتّاك من السيطرة في آسيا، وخصوصاً الصين والهند وروسيا. وبحسب تقرير لمجموعة من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين نشرته أخيراً مجلة"فورين افيرز"، يُعتقد بأن الإيدز قد يؤثر على مسار تحوّل الصين والهند إلى دول كبرى، خصوصاً من الناحية الاقتصادية. وبفعل تناقضاتهما الداخلية، لن تستطيع الدولتان كلتاهما السيطرة على وباء الإيدز في المستقبل القريب، مما يعرض القوى البشرية المؤهلة فيهما، التي تتركز في الاجيال الشابة، إلى ضربة موجعة. ويزيد التفشي من الآثار الاجتماعية الحادة للتفاوت في الدخل، وكذلك توزيع الثروات، في الدولتين. يزيد من تعقيد هذه الصورة، انهما، وكذلك روسيا تمتلكان قوة نووية مهمة، اضافة إلى جيوش كلاسيكية كبيرة العدد، هذه الاخيرة قد تشكل بحد ذاتها بؤراً عصيّة للفيروس المميت. ويُرجح التقرير عينه ان الآثار المتولدة من انفجار موجة الإيدز في تلك الدول الثلاث قد تساهم في تغيير ملامح المشهد العالمي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وراهناً، يبرز احتمال آخر قد يكون اكثر هولاً. وقد تلاقي تلك الموجة المنفلتة من جائحة الإيدز، وباء لا يقل فتكاً قد ينجم من تحوّل فيروس انفلونزا الطيور إلى عنصر قادر على اصابة البشر والانتقال بينهم بسهولة. ما الذي قد ينجم، حينها، من تلك الضربة المزدوجة للفيروسات في ذلك العمق الآسيوي المتأجج؟ ان الحديث عن عشرات الملايين من القتلى، معظمهم في سن الشباب، اضافة إلى بلايين الدولارات من الخسائر، قد لا يُمثّل سوى الجزء الطافي من جبل الجليد الهائل من الكوارث التي قد تنجم من ذلك الاحتمال المُخيف. هناك ايضاً اثر اليأس الذي قد يكون ضارباً، خصوصاً مع التمزقات الكبيرة في انسجة تلك المجتمعات، والانهيارات في صمامات أمانها. هل نشهد"حروب الفيروسات"، على غرار ما مرّ في التاريخ من حروب الهويات والاستعمار والامبراطوريات والحضارات والنفط والمياه والاديان وغيرها؟ لننتظر ولنر. اذن، بعد اكثر من عشرين عاماً على موجته الراهنة، التي تؤرخ بالعام 1981، يبدو التفشي العالمي لوباء الإيدز، الذي يُسمى جائحة بلغة العلم، خارج سيطرة الجهود المبذولة لاحتواء ذلك الفيروس القاتل. الطاعون وأوروبا واليهود ليس الحديث عن العلاقة بين الاوبئة والتمزقات الاجتماعية والحروب بجديد على متابعي تاريخ الفيروسات. ثمة مثال يأتي من الطاعون Plague. لُقّب ب"الموت الاسود Black Death وهي تسمية ذات طبيعة عنصرية فاقعة الذي اجتاح اوروبا في القرن الرابع عشر. وراهناً، تفوّق الإيدز على تلك الموجة من الطاعون التي قتلت 25 مليون شخص كانوا يمثلون، حينها، ربع سكان القارة الاوروبية. وبحسب موقع مجلة"ساينس" Science الأميركية، فان كثيراً من علماء الاجتماع المعاصرين يربطون بين تفشي الطاعون، وما رافقه من تغييرات، وبين انهيار النظام الاقطاعي في اوروبا. ولقد رافق ذلك الانهيار واعقبه، ثورات كثيرة، اضافة الى حروب اوروبية امتدت اكثر من مئة عام، لكنها لم تقتصر على ارض تلك القارة. ومثلاً، كيف يمكن ان ترسم العلاقة، في هذا السياق، بين الحروب الصليبية والطاعون؟ مجرد سؤال. ثمة ملمح آخر في التاريخ الاجتماعي للطاعون، تجدر قراءته بانتباه. لقد أججت انطلاقة الطاعون، خصوصاً بين عامي 1348 و1349، مشاعر العداء للسامية في اوروبا، وخصوصاً في المانيا. ففي ذلك الوقت بدا الوباء، الذي نعلم الآن انه ينجم من جرثومة تحملها براغيث تعشش في جلود الفئران السود، غامضاً وفاتكاً. ورافقته موجات من هلع وذعر وغضب وانفعالات حادة كثيرة، اساسها الخوف الهائل. وفسرته العقول حينها باشياء مثل الغضب الالهي والعقاب السماوي وغيرهما. وبفعل امور متشابكة، بدت اوروبا المسيحية، حيث كانت الكنيسة في عز سطوتها على العقول والسلطات، وكأنها وجدت من تلقي اللوم عليه. وتمثّل"الآخر"، موضع الادانة واللوم ثم الموت لاحقاً، في...اليهود. وهكذا، اندفعت الجماهير المستثارة بالخوف من الوباء والموت إلى اليهود. ودفعت بهم إلى محاكم ادانتهم سلفاً. وعُذب كثيرون للحصول على"اعترافات"، كانت جاهزة اصلاً. وفي مدينة ستراسبورغ، مثلاً، نُظمت محرقة لنحو آلفي يهودي. وخُيّر هؤلاء بين ترك ديانتهم باعتناق المسيحية والموت. وأخذت شفقة البعض بالاطفال، فنُزعوا من بين ايدي آبائهم ليُعمّدوا بحسب الطقوس الكنسية، ثم تبنتهم أُسر مسيحية. واصدر مجلس المدينة، الذي حاول في البدء من دون جدوى حماية اليهود من غضب الجموع، أمراً بمنع دخول اليهود إلى تلك المدينة لمدة مائة عام! وفي المقابل، تضمنت تلك الافعال جانباً اقتصادياً مهماً. فقد سُلب اليهود الاموال، اضافة إلى صكوك الديون. ووزعت تلك الاموال على الناس بالتساوي. وادى اتلاف صكوك الديون إلى خلاص كثير من الاقطاعيين. وفي المقابل، فان صغار ملاك الاراضي شكلوا اكثرية المستدينين من اليهود. وبزوال صكوك ديونهم، وكذلك ببعض من الاموال الموزعة، حدث تغيير كبير في توزيع الثروة الداخلية. وساهمت تلك الامور في ظهور كثير من الورش والحرف، التي غيّرت من البنية الاجتماعية في انحاء كثيرة من اوروبا. وكذلك فرض الطاعون تغييراً كبيراً في العادات اليومية للناس، وخصوصاً لجهة الاختلاط والنوم وتركيب الساحات العامة والنُزُل الخانات، اضافة إلى قوانين التجنيد وتشكيلة الجيوش وغيرها. والارجح ان تقصي اثار الطاعون الاوروبي هو أمر متشابك. ولعل آخر القائمة ذلك الرأي الذي يذهب اليه بعض اختصاصيي الجينات، من ملاحظة ان الاماكن التي شهدت سابقاً انتشاراً كبيراً للطاعون، هي عينها التي استطاعت احتواء الإيدز بسهولة نسبياً. والحال ان هذا الرأي لا يجد الكثير من الاسانيد راهناً، لكنه يعطي فكرة عن الآمدية التي قد تصل اليها الاوبئة والفيروسات في التأثير على الانسان. وباستعادة نحو ربع قرن من تفشي الإيدز، نلاحظ ذلك الميل لالقاء اللوم على الآخر، الجاهز في العقول والمخيلات. ففي أميركا، القي اللوم في انتشار الإيدز على مثليي الجنس من الذكور، اضافة إلى الميل لتفسير المرض بوصفه غضباً الهياً! واضاف الأمر عنصراً آخر إلى التمييز ضدهم. ولعل الفيلم الهوليوودي"فيلادلفيا"1993- بطولة توم هانكس ودينزل واشنطن نموذج من ذلك الأمر. وسرعان ما لقي الهايتيون، واصحاب الاصل الاسباني، المصير نفسه. ومع تركز الإيدز في افريقيا والاحياء الفقيرة في أميركا، انتقل اللوم الى السود، اضافة إلى بائعات الهوى ومتعاطي المخدرات. ثم توسع الامر ليصبح خطاباً سياسياً شاملاً، يدين المنادين بحقوق المرآة واصحاب الميول المتحررة جنسياً ومُعارضي التشدد حيال الاجهاض وانصار المساواة بين البيض والسود، وكذلك مناهضي العنصرية واتباع"الخطاب السياسي لحقبة الستينات"والداعين إلى منع انتشار الاسلحة الفردية، ومعارضي ما يُسمى ب"اخلاق الاسرة"وغيرهم. والحال ان تلك الأمور هي في صلب خطاب المحافظين الجدد، الذين يمسكون بمفاتيح السلطة في ادارة الرئيس جورج بوش. والمفارقة ان انطلاقة الايدز رافقت بداية ولاية الرئيس الجمهوري المحافظ رونالد ريغان، حيث وجد"المحافظون الجدد"انطلاقتهم الاولى، ولو انهم اعتبروا متطرفين في صفوف تلك الادارة! والارجح ان الحديث عن العلاقة بين المجتمعات والفيروسات اكبر من احاطته بمقال منفرد. [email protected]