الطعام وسيلة لإشباع غريزة فطرية تدفعنا للبقاء على قيد الحياة، ولكنه منذ فترة بعيدة لم يعد مجرد وسيلة للبقاء، إذ يعد أمراً حيوياً في تشكيل المشاعر والعلاقات وجمع شمل العائلة والأصدقاء، كما أنه وفقاً للبراهين العلمية وتجربتي في الاندماج مع المجتمع الغربي وبالأخص الكندي، يعد أداة لكسر الحواجز وإقامة العلاقات الجديدة. حيث تمكنت من تكوين علاقات مع عدة أشخاص من جنسيات مختلفة، واكتشفت فيها أن الطعام كان مساعداً أساسياً في محاولاتي للتواصل الاجتماعي مع الآخر. كان لدي فضول لاكتشاف ثقافة "الغرب" ومشاهدة بعيني نمط حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقبل الذهاب لكندا توقعت أنه مجرد العيش هناك سوف أتمكن بسهولة من تكوين علاقات مع الكنديين، واكتشاف عالمهم "المخيف" ولكن وجدت نفسي كغيري من السعوديين محصورة في منطقة الراحة، والانطواء مع السعوديين والعرب والمسلمين - مع من يشبهنا فقط. الحواجز التي منعتني في البداية من الاندماج في المجتمع الغربي كانت كثيرة أهمها كانت اللغة، ومن ثم بعدها قلقي من عدم تقبلهم لي، وخصوصاً في تلك الفترة التي ابتعدت فيها المسافة بين الشرق والغرب بسبب الهجمات الإرهابية التي تسببت بتشويه الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين. ولكن اكتشفت بالصدفة أن تبادل وتقديم الطعام-السلوك المعتاد الذي أقوم به منذ طفولتي- يخلق فرصاً كثيرة للانفتاح على الثقافات الأخرى. كنا فقط نطرق الباب ونقول نحن جيرانكم شقة رقم كذا ونريد أن نشارككم هذا الطبق بعدها يعود الجيران إلينا لإعادة الطبق ثم يبدأ النقاش حول من نحن ولماذا نحن هنا وما رأينا في كندا وبالطبع مكونات الطبق وطريقة إعداده وغيرها من المواضيع الأخرى التي كان من المستحيل النقاش حولها لولا هذا الطبق. في الجامعة كانت تمر أيام وأسابيع من دون أي نقاش مع طلاب وطالبات من جنسيات أخرى وكنت انزعج كثيراً من هذه العزلة لأني مدركة تماما أن الغرض من الابتعاث ليس لنيل درجة علمية فقط ولكن لتكوين صورة إيجابية عن المملكة، واكتشاف ثقافات أخرى وتطوير مهارات التعايش وتقبل الآخرين - ولكن بمجرد استخدام العصا السحرية يتبدل الحال - يتحول الصمت والابتسامات المصطنعة وتعابير الوجوه التي تحمل آلآف التساؤلات إلى نقاشات ممتعة-ومتعبة أحياناً- حول المملكة وعاداتها وقوانينها ووضع المرأة بها. تبادل وتقديم الطعام فتح لي نافذة استطعت من خلالها تكوين علاقات مع جنسيات وثقافات مختلفة، ليس ذلك فحسب بل تمكنت بتغيير جزء من الصورة السلبية التي كانت لديهم حول المملكة وخصيصا تلك المتعلقة بالمرأة السعودية. تقول لي جارتي الكندية، والتي أصبحت بعدها صديقة مقربة، أنها كانت تعتقد أنني كنت مضطهدة وأن زوجي متسلط وأنها تشعر بالأسف تجاهي كلما رأتني، ولكن حينما اندمجت معي ومع أسرتي ودخولها منزلي وأصبحت ترى بعينها كيف نعيش وكيف تتعامل أسرتي مع بعضها البعض، ورأت بعينها الجو العائلي للأسرة السعودية المسلمة، تغيرت نظرتها كلياً وأصبحت تسعى بنفسها لتصحيح تلك الصورة السلبية عن السعودية لدى الآخرين. ومن المواقف التي أتذكرها أنه في إحدى الأيام وجدنا عند باب شقتنا أحد (الصحون) الذي سبق وشاركنا فيه الطعام مع جيراننا الكنديين، وقد وضعوا بداخلة فراولة مغطاة بالشوكولاتة وبطاقه بجانبه مكتوب بها: "جيراننا الأعزاء، شكراً جزيلاً على الطعام اللذيذ، كانت لفتة لطيفة وكريمة، نحن محظوظون جداً للعيش بالقرب منكم". مازلت أتذكر شعور السعادة والأمان الذي شعرت به عند قراءة هذه الكلمات. هنا أود القول: إن تبادل الطعام مع من يشبهوننا يسهم في تكوين علاقات اجتماعية ونشر المودة والسلام، ولكن تبادله مع من لا يشبهوننا ومع من يختلفون معنا في ثقافتنا وديننا هو وسيلة للتواصل والتعايش، كما أستطيع القول: إن الطعام لغة تواصل يتحدث ويتلذذ بها الجميع فأتقنوا استخدامها.. العالم بحاجة لها.