كل من حاول دراسة النظام الإيراني وفق القواعد الدستورية والبنيوية المتعارف عليها سينتهي به المطاف إلى متاهات ما هو بخارج منها، على اعتبار أن الآليات التي تحكم مسلسل صناعة القرار السياسي في إيران تخضع لمنطق غريب يتقاطع فيه الديني بالسياسي والإيديولوجي بالعرقي، والحسابات الاستراتيجية بأوهام الخرافة المرتبطة بإمامة المهدي ونائبه على الأرض الولي الفقيه. هذا المعطى فرض علينا البحث بين ثنايا هذا التنظيم المركزي الصلب لتحديد أهم المفاصل التي تتدخل في رسم مداخل ومخارج عملية التدافع السياسي والتي تؤدي، بدورها، إلى إنتاج رسم سياسي معين سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي لدولة الولي الفقيه. إن التعاطي مع الشأن الإيراني يفرض ضرورة رصد المؤسسات التي تتحكم في مسلسل صناعة القرار السياسي والعسكري والاقتصادي في إيران، وهو الرصد الذي يدفعنا، منطقيا وبنيويا، إلى الوقوف مطولا عند دور المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي في البناء المؤسساتي لدولة إيران، وكيف احتكر هذا الأخير السلطة المطلقة في دولة الملالي. المرشد الأعلى: رأس الأفعى وحاضنة الشر علي خامنئي: التلميذ الشرعي لأفكار سيد قطب ولد علي الحسيني خامنئي بتاريخ 17 يوليو 1939م بمدينة مشهد من محافظة خراسان الإيرانية، وكان والده جواد الخامنئي من علماء مشهد، وجدّه حسين الخامنئي من علماء أذربيجان المقيمين في النجف. أما والدته فهي خديجة ميردامادي، أصولها من مدينة أصفهان. أما عن نسبه فهو يدّعي أن نسله يصل إلى الخليفة الراشد الرابع عليّ بن أبي طالب من طريق زين العابدين بن الحسين الإمام الرابع عند الشيعة الإمامية، وهو الادعاء الكلاسيكي لمحاولة إضفاء هالة من القداسة على شخصيته باعتباره صاحب الولاية على أمر الإسلام والمسلمين في انتظار عودة الإمام الغائب (محمد بن الحسن العسكري). علي خامنئي التلميذ الشرعي لأفكار سيد قطب ما جعله يتأثر تاثراً عميقاً بإيديولوجية الإخوان المسلمين درس خامنئي آداب اللغة العربية وأصول الفلسفة والمنطق على يد مجموعة من المدرسين في مشهد وعلى رأسهم الشيخ هاشم قزويني وجواد آقا طهراني وأحمد مدرس يزدي، كما درس سنتين على أيدي بعض المراجع الشيعة في العراق ومن أبرزهم محسن الحكيم، وأبو القاسم الخوئي، ومحمود شاهرودي قبل عودته إلى إيران سنة 1959م، حيث توجه إلى مدينة قم والتحق بحوزتها العلمية لاستكمال دراسته الدينية العليا في الفقه والأصول، وهناك دأب على حضور دروس أهم الأساتذة فيها من قبيل حسين البروجردي والخميني والشيخ مرتضى الحائري اليزدي ومحمد محقق ميرداماد وسيد محمد حسين الطباطبائي. رفسنجاني الذي لعب دوراً حاسماً في عملية اختيار خامنئي خليفة للخميني رغم عدم تمتعه بالمؤهلات الدينية والشخصية ستُشكل سنة 1964م عودة خامنئي إلى مدينة مشهد حيث استكمل بها دراسة العلوم الفقهية وأصول المكاسب والتفسير عند أستاذه القديم ميلاني، وهي الفترة التي عرفت تشبعه بمبادئ العقيدة الثورية في شقها "القُطبي" المتعلق بالعصبة المؤمنة التي ستقود العملية الانقلابية على الأنظمة الحاكمة، وهي العقيدة التي عكف خامنئي على تلقينها لتلامذته مستمدا أصولها ومبادئها من الأفكار التي طرحها سيد قطب ليزرع في الأتباع روح الثورة والانقلاب على نظام الشاه، وهو ما انتهى به إلى الاعتقال في عدة مناسبات كان آخرها عام 1977 حين تم اعتقاله وإبعاده إلى مدينة إيران شهر في محافظة سيستان وبلوشستان. المرشد الإيراني يتربع على ثروة قدرها 190 مليار دولار تلعب مؤسسة «سيتاد» دوراً مركزياً في مراكمتها وتضخيمها تأثر خامنئي تأثراً عميقا بكتابات سيد قطب، حيث قام بترجمة كتابه "المستقبل لهذا الدين"، حيث علق عليه في المقدمة بالقول: "هذا الكتاب، رغم صغر حجمه، خطوة رحبة فاعلة على هذا الطريق الرسالي. مؤلفه الكريم الكبير سعى في فصوله المبوبة تبويباً ابتكارياً، إلى أن يعطي أولاً صورة حقيقية عن الدين، وبعد أن بيّن أن الدين منهج حياة.. أثبت بأسلوب رائع ونظرة موضوعية أن العالم سيتجه نحو رسالتنا، وأن المستقبل لهذا الدين". كما أشاد خامنئي، في نفس المقدمة، بكتاب آخر لسيد قطب يحمل عنوان "خصائص التصور الإسلامي"، وقال عنه: "أحد مؤلفاته القيمة والمبتكرة... ومترجم هذا الكتاب يعكف على ترجمته، وسيقدم قريباً إلى قراء الدراسات الإسلامية التحليلية... فالكتب الأخرى للمؤلف المفكر المجاهد تشكل كل منها خطوة على طريق توضيح معالم الرسالة الإسلامية، وتفند مزاعم أولئك الذين يتهمون الإسلام بالبعد عن المنهج العلمي الصحيح وبأنه استنفد أغراضه". خامنئي: حامل لواء الإسلام السياسي الشيعي إن دراسة أفكار خامنئي تجعل القارئ يقف عند تأثره العميق بإيديولوجية الإخوان المسلمين، حيث وجد "المُرشد" ضالته في فناء تيار الإسلام السياسي في نسخته الإيرانية. ولعل هذا التقاطع الإيديولوجي مرده إلى تأثر خامنئي بمجتبى نواب صفوي زعيم حركة فدائيان إسلام، حيث التقاه في مشهد سنة 1952 وتقوت العلاقة بينهما قبل اعتقال خامنئي في إحدى المناسبات على خلفية حضوره لتجمع احتجاجي لحركة فدائيان إسلام. في هذا السياق، لم يعد خافيا علاقة نواب صفوي المتميزة بالتنظيم الإخواني، حيث سبق له أن زار مصر سنة 1954 بناء على دعوة من الإخوان المسلمين والتقى هناك بالمرشد العام حسن الهضيبي وسيد قطب لتتوطد العلاقة بين الطرفين إلى درجة قيام الجماعة بمحاولات جادة لمحاولة إطلاق سراح نواب صفوي أو اختطافه من السجن بعدما حكم عليه بالإعدام، وهو الحكم الذي تم تنفيذه في حقه رميا بالرصاص بتاريخ 18 يناير 1956. ويُنسب لصفوي أنه قال في حفل خطابي بدمشق سنة 1954، بحضور مراقب الإخوان المسلمين في سورية مصطفى السُّباعي "مَن أراد أن يكون جعفرياً حقيقياً فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين". هذه العبارة تكشف بعمق السياقات الإيديولوجية والسياسية للتقارب الإخواني الصفوي، وهو التقارب الذي مازال قائما بقوة إلى أيامنا هذه. خلافة الخميني في غفلة من الجميع قبل سنوات من وفاة الخميني، استطاع علي خامنئي أن يجمع حوله شعبية كبيرة في غفلة من الأجنحة التي كانت تتصارع لفرض المرشد الأعلى الجديد. ولعل أولى الخطوات التي استغلها خامنئي ليتسلق من خلالها سلم السلطة ارتبطت بالدعوى التي قدمها في البرلمان الإيراني ضد رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر بسبب ما اعتبره تقويضا لنفوذ رجال الدين. وكانت هذه الدعوى، سببا مباشرا في عزل الأخير من طرف البرلمان الإيراني، ودفعت ببني صدر إلى الاختفاء والهرب خارج إيران بعدما أحس بأنه لم يعد مرغوبا فيه من طرف رجال الدين في إيران وعلى رأسهم الخميني. وبعد مقتل محمد علي رجائي، ثاني رئيس جمهورية لإيران، على إثر التفجير الذي استهدف مكتب الرئاسة الإيرانية سنة 1981م، والذي اتُهمت في ضلوعه منظمة مجاهدي خلق، خاصة بعد اعتقال مسعود كشميري الذي يُعتقد بأنه العقل المدبر للعملية، أقدمت "القوى الثورية" على ترشيح علي خامنئي لمنصب رئيس الجمهورية، حيث نجح في تولي هذا المنصب بعد أن حصل على أكثر من 16 مليون صوت من مجمل 17 مليون صوت مسجل في اللوائح الانتخابية !!! سيواصل خامنئي شق طريقه بثبات نحو أعلى هرم السلطة، خصوصا وأن الخميني كان ينظر إليه بعين الرضا وهو ما جعله يعينه كممثل له في المجلس الأعلى للدفاع الوطني، وكذا تزكيته لتولي منصب نائب وزير الدفاع، ومسؤول قوات الحرس الثوري الإيراني، وإمام جمعة طهران، بالإضافة إلى منصب رئيس المجلس الأعلى للثورة الثقافية وكذا رئيس مجلس سياسات البلاد العليا. سيستفيد خامنئي من غضب الخميني على حسين علي منتظري، والذي قام الخميني بتعيينه خلفا له حيث رأى فيه القدرة على المحافظة على نفس النسق السياسي والإيديولوجي في إيران، إلا أن الانتقادات التي وجهها هذا الأخير للنظام الإيراني واتهامه له بانتهاك حقوق الإنسان وعدم احترام المنهجية الديمقراطية، دفعت بالخميني إلى الانقلاب عليه ووضعه تحت تدابير الإقامة الجبرية إلى غاية وفاته سنة 2009. على إثر ذلك، وبعد وفاة الخميني بثلاثة أيام والانتهاء من مراسيم الدفن، قام مجلس خبراء القيادة بتعيين علي خامنئي مرشدا أعلى للثورة، رغم أن البعض أشار آنذاك إلى عدم تمتع هذا الأخير بالمؤهلات الدينية والشخصية التي تؤهله لشغر هذا المنصب الخطير مقارنة بسلفه. ويظل خامنئي مدينا بالفضل الكبير لهاشمي رفسنجاني الذي لعب دوراً حاسماً في عملية اختيار خامنئي عندما ادعى بأن الخميني أخبره بأن خامنئي هو "أفضل من يحمل عبئه بعد وفاته". استطاع خامنئي أن يحافظ على التوجه العام للسياسة الإيرانية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ونجح في فرض ديكتاتورية حقيقية على الشعب الإيراني، إلى درجة أنه نجح في وضع يده على تشكيلة مجلس خبراء القيادة والذي يُفترض أنه يقوم بممارسة دور رقابي على قرارات المرشد الأعلى. وفي سياق السعي إلى تقوية نفوذه السياسي، سيعتمد خامنئي على بناء مؤسساتي أخذ شكل مثلث متساوي الساقين على رأسه السلطة الدينية التي يمثلها خامنئي ورجال الدين، فيما الزاوية الثانية تمثلها السلطة العسكرية والزاوية الثالثة تمثلها السلطة الاقتصادية. على هذا المستوى، راكم خامنئي، الذي بدأ حياته مستضعفا ومحروما، إمبراطورية اقتصادية حولته إلى أغنى أغنياء إيران بثروة فاقت ما قيمته 200 مليار دولار حسب ما أفادت به مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات، والتي صرحت بأن لديها قائمة كاملة بأسماء 146 شركة يمتلكها المرشد الأعلى الإيراني، وهو ما أكده الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد والذي صرح بأن المرشد الإيراني يتربع على ثروة قدرها 190 مليار دولار، ستلعب مؤسسة "سيتاد" دورا مركزيا في مراكمتها وتضخيمها. وحسب استطلاع وكالة رويترز للأنباء، فإن منظمة "سيتاد"، وهي اختزال ل"سيتاد إجرائي فرمان حضرت إمام" (بالعربية مركز تنفيذ أوامر الإمام)، تعتبر واحدة من أهم مفاتيح تحكم خامنئي في دواليب السلطة في إيران، بل وهي من حافظت له على مكانته القوية على هرم الحكم في جمهورية الولي الفقيه. حيث أن قيمة "سيتاد" تتجاوز 100 مليار دولار، وهو ما يُناهز عائدات إيران السنوية من النفط. وحسب التقرير الذي أنجزته رويترز، فإن هذه المنظمة تتحكم في مفاصل جميع القطاعات المرتبطة بالاقتصاد الوطني، والمالية والبترول والاتصالات، في ظل بنية هيكلية ومؤسساتية يغلب عليها التعتيم والسرية. وتقول رويترز في دراستها بأن "المنظمة تمنح علي خامنئي، الوسائل المالية للعمل باستقلال عن البرلمان وعن الميزانية الوطنية، مما يحميه من الصراعات المعقدة على السلطة التي تهز الجمهورية الإسلامية". كانت هذه بعض معالم شخصية علي خامنئي وظروف وصوله إلى السلطة والأدوات والوسائل، بالمفهوم الاستراتيجي، التي ساعدته على ترسخ سلطته في بلد يبقى مستقبله السياسي مفتوح على جميع الاحتمالات، في ظل وجود مؤشرات قوية على النهاية الحتمية لهذا النظام الشمولي الذي يشكل طفرة وحالة شاذة في المنطقة. حسن الهضيبي التقى نواب الصفوي في القاهرة عام 1954 مصطفى السباعي مراقب الإخوان في سورية التقى الصفوى لتعزيز العلاقات بين الطرفين خميني ومنتظري.. اختلاف الرأي أفسد قضية الود نواب صفوي وسيد قطب.. هدف واحد باتجاهين