دأبت الشعوب في المحافظة على تميزها: ثقافياً، واجتماعياً، وعقدياً، وتاريخياً، من خلال الحرص على تكوين هوية تساعدها على التفرد، لأنها ترفع نسبة الوعي بالذات، وتمنح الشعوب التميز من بعضها البعض، فالهوية تجعل الفرد يتمتع بخصوصية تعكس لغته، وعقيدته، وثقافته، وتاريخه، كما أنها همزة الوصل بين جميع الأفراد، سواء داخل مجتمعاتهم أو مع المجتمعات الأخرى. ومنذ تشكل أولى المجتمعات والتجمعات البشرية، كانت اللغة هي رمز الهوية، وهي البوابة لمعرفة هوية الشعوب، وتعرّف ثقافاتهم وعاداتهم، لقد برع الإنسان في جعل اللغة فنًا؛ محتفظة في الوقت نفسه بوظيفتها التواصلية، فنًا بإمكانه من خلالها التعبير عن جميع مشاعره وأحاسيسه وأفراحه وأتراحه، فبإمكانه من خلال اللغة أن يجعل قاعة تعج بمئات الأشخاص أن يبتهجوا طربًا لقصيدة ما، أو ينفجروا ضحكًا من خلال بضع كلمات في نكتةٍ ما. الأكيد أننا غالباً ما ندعي أننا نعرف أنفسنا جيداً، نتباهى كثيراً بذلك، ولكننا نتفاجأ وننصدم بأنفسنا عند المواقف، فالموقف هو الذي يظهر شخصيتنا الحقيقية وطباعنا التي قد نحاول أن نخفيها عن الآخر، لذلك أهمية أن تتعرف على نفسك، تفهمها، تعرف ردات فعلك بدقة، تصارح نفسك، من أجل أن تتوافق مع ما حولك، وتحس بالانتماء، وتعرف هويتك، فالبعض منا قد يحس بالاغتراب الذاتي، لأنه يصارع شيئاً لا يستطيع التحكم به، يرى لا شولي "أن الهوية الشخصية ليست شيئاً معطى بشكل قبلي كما هو الشأن عند ديكارت، وإنما هي نتاج لدوام نفس الطبع والمزاج وترابط الذكريات".. ويرى شلنج وهيغل "أن الهوية ليست مجرد ظاهرة نفسية بل ظاهرة كونية". عندما تكون لدى الإنسان حرية الاختيار في حياته تتضح هويته هنا فلا يشعر بالاغتراب في واقع لم يختر العيش فيه، ولا يكون مجبراً على التعامل مع مواقف لا دخل له فيها، وظروف يجد نفسه خاضعاً لها دون أن يكون له شأن فيها، والاغتراب له أشكال مثل تبني أفكار مجتمعات أخرى في مجتمعاتنا التي لها إرث ثقافي وفكري وديني تجعله من أخطر أنواع الاغتراب، فلا أنت تتبع المجتمعات التي تبنيت أفكارها ولا أنت حافظت على ثوابت مجتمعك، هنا الاغتراب يكون مضاعفاً، والهوية أساسها الحرية وهي الإحساس بالذات والالتصاق بها، والذات يفترض أن تكون حرة، والهوية هي التي تعبر عنها، فالهوية نحن من نصنعها، فالوعي بالذات ثم الوعي بالعالم المحيط يطرح تساؤلاً، من أنا؟ وكيف أكون وسط هذا العالم؟ بمعنى يبدأ التشكل ونشأة السؤال عن الهوية.