احتفى العالم العربي أمس الأربعاء باليوم العالمي للغة العربية، والذي يأتي ثمرةً لجهود المملكة في خدمة اللغة العربية، حيث أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 190 للمجلس التنفيذي «اليونيسكو» أن 18 من ديسمبر هو يوم عالمي للغة العربية بعد اقتراح قدمته المملكة. "ترسيخ" وفي هذه المناسبة تحدث أستاذ النقد والنظرية بجامعة الملك سعود الدكتور معجب العدواني عن جهود المملكة في إقرار هذا اليوم من اليونيسكو حيث قال: الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية الذي يوافق 18 من شهر ديسمبر كل عام، وهو يوم يأتي ثمرة جهود كبيرة بذلتها المملكة، وتوج بإقراره يومًا عالميًا للعربية. ولا يستغرب هذا مع ما اعتادت بلادنا عليه، في سلسلة أعمالها المميزة والمتواترة من أجل ترسيخ هوية العربية في عالم يحفل بالمنافسة، ويعج بالتحديات، وأرى أن هذه الخطوة الجريئة قد أفلحت في تعزيز لغتنا ونحت حضورها البهي في العالم، إلى جانب العناية الدائمة بها في الوطن العربي، بالسعي إلى الكشف عن خطوات تطويرها وملاءمتها لما نعيشه في عصرنا الحديث. "إثراء" واستطرد العدواني: يتجلى الاحتفاء باللغة العربية غالبًا في صورتين: صورة المديح والثناء، وما تتطرق إليه أحيانًا من عقد مقارنات مع اللغات الأخرى، وصورة أخرى تتمثل في دعوات إلى التزام أبنائها بالتحدث بالفصحى، ونبذ اللهجات العامية. وفي رأيي أن هاتين الصورتين معبرتان، لكنهما تستحقان مزيدًا من الدرس والتحليل من أجل تدارك بعض الخلل؛ فالصورة الأولى التي تكثر من الثناء على العربية محمودة، لكنها حين تمتد إلى الانتقاص من اللغات الأخرى ومن الناطقين بها تصبح غير منطقية، وتبدو ملامح من هذه الصورة في تراثنا. من كان لديه حقل فليهتم بتنميته دون النظر إلى مثالب الحقول المجاورة، بل عليه أن يفيد من التجارب الجيدة لمن حوله من أجل النهوض، ومثل ذلك العناية باللغة بوصفها جزءًا منا لا يمكن فصله عنا. أما الصورة الأخرى فهي التي تنتقص من العامية، ومن ثم تقلل من الآداب الشعبية التي وصلت إلينا، مع أن الاهتمام بتلك الروافد الصغيرة مصدر إثراء لنهر الفصحى، ولن يقلل من قيمته أو يضعفه. "تقنية" وعن الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية قال: نلحظ الاختيار الذكي للعناوين الرئيسة لليوم العالمي للغة العربية التي تتبنى البعد العملي، وتقود إلى شراكات فاعلة، ومن ذلك الذكاء الاصطناعي الذي ينبغي أن يرسخ حضوره في هذا العصر الذي يتقاطع مع منجزات التقنية الحديثة ولغة (البرمجيات) والتطبيقات الذكية، منها ما يكون إضافة ذاتية إلى الحقل اللغوي نفسه كصناعة معاجمها، ومنها ما يكون إضافة إلى الحقول الأخرى التي تتقاطع مع حياتنا اليومية. «هوية» ومن جانبه، أكد أستاذ البلاغة والنقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الدكتور عبدالعزيز العمار على أهمية اليوم العالمي للغة العربية، وأنه فرصة للتذكير بأهمية اللغة التي لا يكفيها يوم أو يومان. حيث قال: إذا كانت اللغات الأخرى يحتفى بها في يوم واحد فإننا نعيش العربية في كل لحظة من لحظات حياتنا، ونتحدث ونكتب بها القصائد والمقالات ونتنفسها، بل هي جزء من هويتنا، ولن تجد إنسانًا يتخلى عن هويته ثم يعود للهوية في يوم واحد، واللغة العربية هوية وانتماء ولباس وغطاء. "حراك" وأضاف العمار: أؤكد على أن هذا اليوم لا يأتي للاحتفال باللغة العربية فقط، وإنما يأتي هذا اليوم ليذكرنا بأهمية هذه اللغة التي ننتمي لها حتى تعيش معنا طوال العام، وتُقدم البرامج والندوات والمؤتمرات التي تخدم هذه اللغة. وذكر العمار أن المملكة بذلت ولا تزال تبذل الجهد في الحفاظ على اللغة العربية وخدمتها، ومن ضمنها تبنّيها فكرة اليوم العالمي للغة العربية، والسعي لجعله يومًا رسميًا عالميًا، وأن هذه الجهود أثمرت ونتج عنها حراك عالمي يخدم اللغة العربية. «نمو» من جانبها قالت الجوهرة بنت عبد العزيز المعيوف الأستاذة بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود: ليس عبثًا ولا صدفةً ولا أمرًا عابرًا أن تكون اللغة العربية معدودةً ضمن ست لغات فقط عالمية حية، وضمن لغات العمل في الأممالمتحدة، وأن يكون لها يوم عالمي موثّق يُحتفل به رسميًا، بل إن كل ذلك حقٌ لها استأهلته، فنالته. ولا يخفى أن يوم الثامن عشر من ديسمبر من كل عام هو اليوم المقرر للاحتفال بها، لكونه التاريخ الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها التاريخي رقم 3190 في ديسمبر من العام 1973 بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة، بعد اقتراح تقدمت به المملكة، حتى أصبحت وبعد مراحل من التمكين تحتل المرتبة الرابعة بعد الإنجليزية والصينية والإسبانية بين اللغات الأكثر استخداماً على شبكة الإنترنت، والمرتبة الثانية بين أكثر اللغات نموًا. «دين» وأضافت: لا عجب إن سعت المملكة لتأسيس هذا اليوم حتى أتت الجهود أكلها وأينعت، وصارت واقعًا نعيشه؛ فمكانتها الدينية والجغرافية والتاريخية والدولية توجب ذلك وتبرره. وقد انطلقت في ذلك من منطلقات إيمانية راسخة، في مقدمتها إيمانها بالأهمية الدينية للغة العربية؛ فهي لغة دينٍ خاتمٍ شع نوره من أرضها{بلسان عربي مبين} أُرسل به نبي عربي، هو أفصح من تحدث بها عليه الصلاة والسلام، ويترتب على ذلك إيمانها بدورها الريادي في خدمة لغة التشريع الإسلامي الذي يهم كل مسلم في أرجاء المعمورة. ومن منطلق كون العربية لغة أرضها عبر تاريخ بعيد ممتد، وبتوحيد البلاد شكلت «هويةً لغويةً وطنية» للدولة، تنضوي تحت مظلة كونها «الهوية القومية» لنطاقٍ واسع من متحدثيها على خريطة العالم الجغرافية، وخريطته التاريخية عبر الزمن؛ وبه تكون أحد أهم العوامل لتوحد لواء العرب تحت مظلة واحدة. «أثر» وأيضاً من منطلق أعم هو الدور العظيم الذي تقوم به اللغة العربية في حياة الفرد والمجتمع والعالم بأكمله، بوصفها ركنًا من أركان التنوع الثقافي للبشرية؛ فهي الوسيلة الوحيدة للتعرف على التراث الثقافي العربي والإسلامي الذي تجلى فيه ثراؤها اللفظي والمعنوي، واستيعابها التعبير عن العلوم والفنون، وجماليات أدبية لا حصر لها؛ لما تمتلكه من تفرد في الخصائص والسمات وقدرة على الوصف والتعبير في مقابل اللغات الأخرى، وبوصفها ناقلاً إلى الثقافة العربية من غيرها، وناقلاً منها إلى الثقافات الأخرى؛ عبر حركتي الترجمة والاستشراق قديماً وحديثاً، ومن صور ذلك نقل المستشرقين العلوم العربية وفنون الحضارة الإسلامية إلى لغاتهم للإفادة منها في نهوض حضاراتهم، حتى إن أثرها في لغاتهم باقٍ حي تشهد به الكلمات المستعملة بأصلها العربي. بل إنها من أبرز أدوات حفظ تاريخ البشرية حين أسهمت في تسجيل تاريخ بعض الأمم حين غاب أي موثق آخر، ومثال ذلك - دون تفصيل - رسالة الرحالة العربي أحمد بن فضلان التي تعد المصدر الوحيد لتاريخ روسيا وبعض الدول الاسكندنافية في القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي، وترجمت إلى عدة لغات، ومازال الاعتداد بها والنهل منها حيّاً مشعاً متجدداً. «وعي» وأكملت: إن الوقوف على جهود المملكة تجاه اللغة العربية يطول ويتفرع، ولكن مما يذكر أنها جعلت تعزيز الشعور بالهوية اللغوية وبث الوعي بأهميتها نصب عينيها؛ فأقرت اللغة العربية لغة رسمية للدولة بنص نظام الحكم، وأصدرت قرارها بأن تكون اللغة الرسمية في المؤتمرات والندوات والاحتفالات، وأقرت مشروع تحسين مستوى طلاب التعليم العام والجامعي اللغوي. ومن انعكاسات ذلك التعزيز استجابةُ جميع القطاعات الحكومية والخاصة في البلاد لرؤية الدولة تجاه اللغة، ومنها تفعيل يومها العالمي. ولدورها الرائد فيما يخص هذا اليوم فإن احتفال اليونيسكو باللغة يأتي بالتعاون مع الوفد الدائم للمملكة لديها، ومع مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية. «مبادرة» وأضافت المعيوف: كما أنشأت مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، وذلك من أجل تحسين أداء اللغة العربية في جميع الدول العربية، حتى إنه حاز جائزة أفضل مبادرة تعمل على إثراء المحتوى العلمي في مجال التخطيط اللغوي والسياسات اللغوية لتنمية الثقافة والممارسة البحثية والإسهام في ترجمة السياسات اللغوية إلى واقع عملي، بالإضافة إلى تأسيس قاعدة بحثية في هذا الميدان. ومن أجلّ أعماله نشر كتاب «جهود المملكة في خدمة اللغة العربية»، ولعل في العودة إليه غنىً لكل من أراد الاستزادة. كما انتبهت المملكة أيضاً إلى أهمية اللغة للأشخاص الناطقين بغيرها في العالم، الراغبين في تعلمها، أو في خدمة الدين بوساطتها، فأخذت على عاتقها خدمتهم في الداخل باستضافتهم في جامعاتها ومعاهدها عبر منحٍ دراسية يعودون منها معلمين في بلدانهم، وفي الخارج بافتتاح معاهد ومراكز تعليم اللغة العربية في أرجاء مختلفة من العالم، ودعم أقسامها، وإيفاد المعلمين لتدريسها، وتبني بعض الكراسي البحثية، حتى إنها حصلت على جائزة «مبادرة اختبار اللغة العربية المقنن لغير الناطقين بها» التي قدمها المركز الوطني للقياس والتقويم. «تعريب» واسترسلت: وللمهتمين باللغة من أكاديميين وغيرهم، وللقطاع الخاص والقطاع الخيري دور في تعزيز انتشارها ودعم معلميها ومتعلميها من خلال دورات التدريب، وإعداد سلاسل المواد التعليمية المقروءة والمرئية، وتقديم الخدمات الاستشارية للجامعات والمعاهد المعنية بتعليم اللغة العربية حول العالم، وتصميم البرمجيات الإلكترونية، وبرامج تعليم اللغة العربية وخدمتها على الإنترنت، مثل المواقع والمجامع والحسابات في منصات التواصل والمبادرات كمبادرة «تحدث العربية» التي بدأت تؤتي ثمرها. وأكدت أن من ثمرات جهود المملكة حصولها على أفضل مشروع تعريب وترجمة، مثلت الدولةَ به مدينةُ الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية عن جهودها في تعريب العلوم، حيث تخدم المبادرة اللغة العربية علمياً وتقنياً من خلال توفير محتوىً علمي حديث، وتطوير تقنيات تخدمها. وتختم حديثها بقولها: سأتوقف عند عبارة ابن خلدون حين قال: «إن قوة اللغة في أمةٍ ما، تعني استمرارية هذه الأمة بأخذ دورها بين بقيَّة الأمم؛ لأن غَلَبة اللغة بغَلَبة أهلها، ومنزلتها بين اللغات صورةٌ لمنزلة دولتها بين الأمم». د. عبدالعزيز العمار د. معجب العدواني