إن أصحاب الهمم العظيمة لا يُثبِّطُهُمْ عن الإصرار على العمل والإنجاز مُثَبِّطٌ يُهوِّلُ مشاقّ الطريق، ولا مُزهِّدٌ فيما يتطلَّعون إليه، ولا مُشكِّكٌ في كفاية فطرهم وقدراتهم لإنجاز ما يصبون إليه، فكم مُصِرٍّ أسمعه الناس عبارات التحطيم فلم تزده إلَّا قوةً وثباتاً، وَبَرْهَنَ في آخر المطاف على أن لا فَشَلَ مع الإصرار.. الأعمال التي تُثمرُ مصالح الدارين، وينتفعُ بها فاعلها في دينه ودنياه لا تخلو من مشقةٍ تلحق العامل في تحصيلها، فليست مكارم المساعي وفضائل الأعمال موضوعة على طرف الثُّمام، ولم تتهيأ لتمتدَّ إليها الأيدي بكل سهولةٍ، وقد صدق القائل: لولا المشقَّةُ ساد الناس كُلُّهُمُ ... الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ ويختلف تعاطي الناس مع محاولة معالي الأمور، فمنهم من لا يدّخرُ الوسع في طلبها، فإن سُدّ أمامه بابٌ منها بالغَ في الإصرار على قرعِهِ، ومنهم من يستكينُ ويكُفُّ يده إذا واجه عقبةً في طريقه، ولو استصحب المرء ما في الإصرار وعلوِّ الهمّةِ من اليُمْنِ والبركة لبارى المثابرين، ونافس المتنافسين، ولو اعترف الكسول بأن الفشل لا يصمد أمام الإصرار بإذن الله وتوفيقه لم ينصرف عن هدفه وإن بدت له مخايل عدم تحققه، وفيما يلي وقفات مع الإصرار والمثابرة على تحقيق الهدف: الوقفة الأولى: إن المثابرة على تحصيل الهدف الفاضل من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا تثنيهم الصعوبات عن العزم على ما كُلِّفوا به، سواء كانت تلك الصعوبات مشاقَّ يكابدونها، أم تحدِّياتٍ يُواجهونها، وقد قصَّ الله علينا من ذلك ما فيه عبرة لمعتبر، فليعتبر المعتبر بنبي الله نوح عليه الصلاة والسلام وطول مكثه مع قومه يدعوهم إلى التوحيد قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا)، وكما تحلّى بالعزم الصميم من خلال المثابرة في هذه المدة المتطاولة كذلك أصرَّ على تبليغ قومه بواسطةِ تنويع أساليب الدعوة لعل أسلوباً ينجح معهم غير آبِهٍ بتفنُّنِهِمْ في فنونِ الصدِّ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً). الوقفة الثانية: إن أبعد الأهداف يُقرِّبُها الله لمن يشاء من عباده بالمصابرة والدأب والمثابرة، وما من مغبوطٍ على نعمةٍ من دينٍ وعلمٍ ومالٍ وجاهٍ، إلا وهذه النعمة التي يُغبطُ عليها منحةٌ من منح الله للعامل المجدِّ، نعم قد يقول الكسول: هذا فلانٌ الثريُّ جاءته الثروة إرثاً بلا كُلْفَةٍ، أو هذا الوجيهُ أتته الوجاهةُ تجرُّ أذيالها مُنقادةً، وما فكّرَ أن الأموال والفضائل الموروثة إنما نشأت للموروث عنه عن اجتهادٍ وكدٍّ، ووارثها إذا لم يُثابرْ على حفظها وتنميتها تشتَّتَتْ من يده، وصارت كأن لم تكن. الوقفة الثالثة: إن أصحاب الهمم العظيمة لا يُثبِّطُهُمْ عن الإصرار على العمل والإنجاز مُثَبِّطٌ يُهوِّلُ مشاقّ الطريق، ولا مُزهِّدٌ فيما يتطلَّعون إليه، ولا مُشكِّكٌ في كفاية فطرهم وقدراتهم لإنجاز ما يصبون إليه، فكم مُصِرٍّ أسمعه الناس عبارات التحطيم فلم تزده إلَّا قوةً وثباتاً، وَبَرْهَنَ في آخر المطاف على أن لا فَشَلَ مع الإصرار، وقد حفظ لنا التاريخ قصصاً مُحفِّزةً من هذا القبيل، ومن ذلك أن الإمام أبا جعفر الطّحاوي المشهور كان يقرأ مذهب الشافعي على خاله المزني، فمرت مسألةٌ دقيقةٌ فلم يفهمها أبو جعفر الطّحاوي، فبالغ المزني في تقريبها له فلم يتّفق ذلك فغضب المزني مُتضجِّراً فقال: والله لا جاءَ منك شيءٌ، فقام أبو جعفر من عنده وتحوَّلَ إلى بعض شيوخه فتفقَّهَ عليه، وصار من أعيانِ الحنفية، ولما صنَّفَ مختصره، قال: رحم الله أبا إبراهيم لو كان حيّاً لكفَّرَ عن يمينه، هكذا المُصِرُّ لا يعرفُ معنى الفشل، وهذه الحادثة التي لم تَفُتَّ من عَضُدِ الطّحاوي لو حَدَثَتْ لضعيفِ الإصرارِ لأَزْلَقَتْهُ إلى حضيضِ الإحباطِ والتّحَطُّمِ. الوقفة الرابعة: من لوازم تحسينِ المؤمن الظنَّ بالله تعالى والتوكل عليه، والإيمان بأنه لا يؤودُهُ شيءٌ، أن يستعينَ بالله في أعماله، ويكون مثابراً على تحقيق أهدافه، ويبذل ما استطاع من الأسباب، فما أصابَ من أهدافه حَمِدَ الله عليه، وواصلَ العملَ، وما فاته منها لم تنقطع نفسه عليه حسرة، ولم ينشغل بتأنيبِ نفسه، وأنه لو فعل كذا لحصل غرضه، بل يستلهم التجربة من الأخطاء التي وقع فيها، ويُصحِّحُ مساره، ويُواصلُ عمله، ولا يزدادُ إلا قوةً ومِراساً في العمل، ومصداق هذا حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» أخرجه مسلم.