بمناسبة يوم ميلاد السيدة فيروز الرابع والثمانين، أترك الكتابة عن الاقتصاد التي تعتمد لغة الأرقام للحديث عن سيدة كان لها فضل كبير في تطوير الأغنية العربية وإعادة إحياء الإرث الأندلسي. كسرت فيروز والمدرسة الرحبانية تقاليد الأغنية العربية الطويلة نسبياً إلى أغنية أسرع تحمل صورة رومانسية ممتعة وبسيطة يعيشها ويشعر بها الجميع، لكن قدرتها على الانتشار بين الشعوب العربية هي محل إعجاب الجميع فكيف استطاعت أن تفعل ذلك دون أن تبدأ من القاهرة حيث توجد صناعة موسيقية ومؤسسات إعلامية ضخمة من صحافة وإذاعة ودار أوبرا لا تضاهيها جميع العواصم العربية الأخرى خصوصًا خلال الخمسينات والستينات الميلادية. هذا التحدي جعل فيروز والرحابنة يصهرون قدراتهم الفنية على عدة قوالب من مسرح وحفلات غنائية واسكتشات تلفزيونية فجابت فرقتهم العواصم العربية لتقديم مسرحيات الرحبانية مثل مسرحية (الليل والقنديل) و(هالة والملك) والكثير غيرها، لتدخل بعد ذلك فيروز القاهرة الفنون والثقافة بإعجاب الموسيقار والمثقف محمد عبدالوهاب الذي منحها أغنيته (يا جارة الوادي) التي كتبها أستاذه أحمد شوقي، لمحمد عبدالوهاب مواقف كثيرة مع الفنانين العرب، فهو من اكتشف نزار قباني عبر قصيدة (أيظن) التي غنتها فيما بعد نجاة ولحن (مجنون ليلى) لأسمهان ووديع الصافي. بعد أن فتحت أبواب القاهرة توجه الرحابنة وفيروز نحو الأمام نحو السينما وتقديم أعلى مستوى تقني في ذلك الوقت بيد أكبر المخرجين العرب مثل يوسف شاهين، وعلى الصعيد الآخر لم تكن فيروز أسيرة الرحابنة بل غنت لغيرهم من ملحنين وكتاب مثل جبران خليل جبران ونزار وسعيد عقل، وكذلك من الأدب العربي سواء الفلكلور الأندلسي أو قصائد ومعلقات عربية. كانت فيروز والإخوان الرحباني في تطور مستمر شكلاً ومضموناً حمل هذه المدرسة إلى نجاح مستمر وقاعدة جماهيرية متراكمة حتى رحيل زوجها عاصي منتصف الثمانينات الميلادية، وسط كل هذا النجاح الفني والجماهيري الكبير ظلت السيدة فيروز قيمة فنية ولم تسمح لسياسة أن تفسد قيمتها، أتذكر أني قرأت نقلاً عن سعيد عقل أنها رفضت أن تغني عند رئيس لبنان السابق كميل شمعون عندما استضاف شاه إيران، وأنها أوقفت لأشهر من إذاعة لبنان لسبب مشابه. مرت بالحرب الأهلية اللبنانية وظلت ترفض السياسة، يقولون إنها وحدت اللبنانيين والسبب أنها لم تفرقهم أصلاً، بل غنت لكل العرب سواء كان بلهجة لبنانية مفهومة أو قصائد عربية فاخرة وظلت رمزاً فنياً لشعوب العرب محتفظة بكبريائها في عزلتها وشموخ الصمت بعيداً عن أغانيها.