حدد خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، خطابه الملكي السنوي لهذا العام أمام مجلس الشورى، في مستهل أعمال السنة الرابعة من الدورة السابعة للمجلس، أولويات الدولة خلال المرحلة المقبلة داخلياً وخارجياً، متناولاً ملامح السياسة الداخلية والخارجية للمملكة، وما تحقّق من إنجازات، ومركّزاً على ملامح عملية التحوّل التنموي التي تمرّ بها المملكة، وما يرافقها من إجراءات وإصلاحات، إضافة إلى خطط الدولة في الجوانب التنموية الشاملة. حَرصَ الملك سلمان على إلقاء الخطاب أمام مجلس الشورى، تأكيداً على الاهتمام الكبير الذي توليه قيادة المملكة للمجلس ودوره المحوري في رسم سياسات البلاد، وهو ما عكسته افتتاحية خطاب خادم الحرمين الشريفين، والتي أكد فيها على أن «نهج المملكة منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس، قائم على تطبيق شرع الله، وعلى أسس الوحدة والتضامن والشورى وإقامة العدل، واستقلال القرار». افتتاحية الخطاب الملكي أشارت إلى رؤية خادم الحرمين الشريفين، لطبيعة العلاقة بين القيادة والشعب، وأنها علاقة تشاركية تعتمد على التضامن ووحدة الهدف والمصير، وليست علاقة رأسية سلطوية. ونظراً لأهمية خطابات خادم الحرمين الشريفين، باعتبارها وثيقةً وطنية للعمل التنموي ورسم ملامح السياسات العامة الداخلية والخارجية، قمنا بتحليل خطاب الملك سلمان بن عبدالعزيز في مجلس الشورى، ودراسة الموضوعات المقدّمة وأسلوب تناولها. * موضوعات الخطاب بتحليل خطاب خادم الحرمين الشريفين، يتضح تركيزه على مجموعة من الموضوعات الداخلية والخارجية، التي تمثّل أولوياتٍ وقضايا مصيريةً للدولة والمواطن، بلغت هذه الموضوعات (10) موضوعات بالغة الأهمية على الخريطة المحلّية والإقليمية والعالمية، وتفاوتت الأهمية النسبية لهذه الموضوعات في سياق الخطاب الملكي، بتفاوت أهميتها ومدى ارتباطها بالمصالح الحيوية للدولة والمواطن، ولهذا اختلفت الأوزان النسبية لهذه الموضوعات العشرة، ليحتلّ كلُّ موضوع في الخطاب مساحةً ملائمة لأهميته في الواقع الفعلي، وتأثيره في المصالح القومية للمملكة. وقد تمّ تحديد الأهمية النسبية لكلّ موضوع من خلال عدد الكلمات التي استغرقها الحديث عن الموضوع داخل الخطاب الملكي، وهو المؤشر الكمّي الذي يُعدُّ دلالةً واضحة على أهمية كلِّ موضوع، والذي يؤهله لأن يأخذ مساحة محددة من اهتمام خادم الحرمين الشريفين، يحفظه الله. وقد جاءت أهمّ ثلاثة موضوعات مرتبةً تنازلياً وفقاً لأهميتها النسبية على النحو التالي: في المرتبة الأولى جاء موضوع (الاعتداءات الإرهابية على منشآت المملكة)، وشغل هذا الموضوع (23 %) من الخطاب الملكي، وفي المرتبة الثانية جاء موضوع (تصنيف المملكة كأكثر الدول تقدّماً والأولى إصلاحاً لبيئة الأعمال)، وشغل هذا الموضوع (15 %) من مساحة الخطاب، وحلّ موضوع (اكتتاب أرامكو) في المرتبة الثالثة بنسبة (13 %)، بينما توزعت النسب الأخرى من الخطاب في قضايا شهداء الواجب والمصابين، وجهود شبان وشابات الوطن، واتفاق الرياض الخاصّ بالشأن اليمني، بالإضافة إلى رئاسة المملكة لمجموعة العشرين، وملف مواجهة الفكر المتطرف. وكما هو مُوضح، فإن المجال الاقتصادي - بقضاياه المتداخلة - مثّل الأهمية الكبرى في خطاب الملك سلمان، وهو ما عكسه حجم التناول الذي وصلت نسبته إلى 41.6 % من مجمل الخطاب. تلاه الجانب السياسي الذي جاء في المرتبة الثانية بنسبة 29.2 %. فيما حصل المجال الخدمي على المرتبة الثالثة بنسبة 13.6 %. * الملفات الاقتصادية استهداف المنشآت النفطية في المملكة يُعدّ محاولةً يائسة لضرب عصب اقتصاد المملكة، وتهديد أهم مصدر للدخل القومي فيها ،فضلاً عن أهمية هذا المورد الاقتصادي السعودي عالمياً، لذا أسهب الخطاب الملكي في تناول هذا الملفّ لخطورته، على الأمن والاقتصاد المحليين، وكذلك على الأمن والسِّلم الدوليين، من خلال تهديده بشكل مباشر إمدادات النفط لدول العالم، وتقويضه المساعي الدولية لإرساء السلام، وتحقيق الرخاء الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط والعالم. ولم يُغفِل الخطابُ توجيهَ رسالتين للعالم.. أُولاهما: أن هذه التهديدات الإجرامية تصدر عن دولة الإرهاب الإيراني وأذرعها ووكلائها في المنطقة، ما يستوجب إدانة عالمية ومواجهة فعالة. والثانية: أن هذه المحاولات لم ولن تؤثر على المسيرة الاقتصادية والتنموية للمملكة، حيث إنها لم توقف إمدادات النفط، بل استعادت هذه المنشآت الطاقة الإنتاجية لها خلال وقت قياسي، أثبتت للعالم قدرة المملكة على تلبية الطلب عند حدوث أي نقص في الإمدادات، ودورَها الرائد في ضمان أمن واستقرار إمدادات الطاقة العالمية. الملف الاقتصادي الثاني الذي ركز عليه الخطاب الملكي، مرتبط بتصنيف البنك الدولي للمملكة كأكثر الدول تقدّماً والأولى إصلاحاً لبيئة الأعمال، إشادةً بما تم تنفيذه من إصلاحات لتحسين بيئة الأعمال وتعزيز تنافسيتها، ما يُدرِجُ المملكة في قائمة أبرز الوجهات الاستثمارية عالمياً، نتيجة الجهود المتواصلة لتحقيق أهداف رؤية 2030، للوصول بالمملكة إلى مصافّ الدول العشر الأكثر تنافسية على مستوى العالم. وفي هذا السياق أشار الخطاب الملكي إلى ملف اكتتاب شركة أرامكو، وهو الحدث الاقتصادي الأهمّ هذه الأيام محلياً ودولياً، إذ من شأنه مضاعفة حجم سوق الأسهم المحلية، وإنعاش فرص الاستثمار الأجنبي في السوق السعودية. وقد تناول خطاب خادم الحرمين الشريفين هذين الحدثين الاقتصاديين بشكل مرتبطٍ ومتوالٍ، تأكيداً على ملاءمة مناخ الاستثمار في المملكة وترحيبه بالمستثمرين، وتشجيع وتحفيز ثقافة الادخار والاستثمار لدى المواطن. كما أن رئاسة المملكة القمة المقبلة لمجموعة العشرين، وهو ملف اقتصادي تطرّق إليه الخطاب الملكي، ستعزز تعاون المملكة مع الدول الأعضاء، وتخلق توافقاً دولياً حول القضايا الاقتصادية. وإذا كان إبراز الإنجازات الاقتصادية والمالية مهماً، فإن التأكيد على أن هذه الإنجازات تمت بسواعد وطنية مؤهلة، يُعدّ أمراً مهماً أيضاً، ولذا اهتمّ الخطاب الملكي بإبراز دور شبان وشابات الوطن، في تحقيق هذه الإنجازات التنموية، حيث يعدّ فتح قطاع السياحة ومنح التأشيرة السياحية، من تجلّياتها الاقتصادية المهمة من جهة، وجسراً ثقافياً حضارياً للتواصل مع العالم من جهة أخرى. ولم تفت خادمَ الحرمين الشريفين الإشادة بالمواطن السعودي، لتعامله الكريم مع الوافدين من السياح والمقيمين، مؤكداً أن هذا السلوك ينبع من المبادئ والتقاليد الراسخة لدى المجتمع السعودي. * الملفات السياسية سياسياً.. أبرز الخطاب جهود المملكة للتوصل إلى رأب الصدع بين الأشقاء اليمنيين، وهو ما تحقق بتوقيع اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي، كما أكد على الموقف الثابت والمبدئي للمملكة في القضية الفلسطينية، لإيجاد حل عادل وشامل يُمكّن الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية وفقاً لمبادرة السلام العربية والقرارات الأممية ذات الصلة. وأشار الخطاب الملكي إلى الموقف الثابت كذلك تجاه القضية السورية، والقائم على أن الحل السياسي هو السبيل الوحيد للحفاظ على سورية وطناً آمناً ومُوَحَّداً لجميع السوريين. وهو هدف لن يتحقق إلا بإخراج كل القوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها من الأراضي السورية، وفي السياق سجّل خادم الحرمين الشريفين موقف المملكة الرافض للتدخّل التركي في شمال شرقي سورية، متعهداً باستمرار المملكة في تقديم المساعدات الإنسانية للشعب السوري من خلال مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية. وعندما تحدّث الملك سلمان عن السياسات والممارسات الإيرانية التخريبية والعدائية، تغيّرت لغةُ خطابه، فجاءت قويةً وحازمة، فاتّبع استراتيجية توجيهية، مستخدماً الوسائلَ اللغوية التي تتلاءم مع طبيعة المُخاطَب (إيران)، سواء من حيث الأمر أو التحذير أو النهي، حيث حذّر النظامَ الإيراني من تبعات الخيارات الجدّية التي تواجه هذا النظام، وأن المملكة على الرغم من تفضيلها النهج السلمي والحلول السياسية، إلا أنها على أُهبة الاستعداد للدفاع عن شعبها بكلِّ حزم ضد أي عدوان. * الملفات الخدمية أكد خادم الحرمين الشريفين في خطابه على النهج التنموي في قطاع الخدمات البلدية، في ظل الاهتمام الكبير الذي تُوليه الدولة للارتقاء بجودة حياة المواطن، من خلال تعزيز المشهد الحضري، والسلامة المرورية، والحدّ من مسبّبات التلوّث المتنوعة، ورفع مستوى الخدمات البلدية المقدمة. وأضاف أنه تم تدشين برنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة 2025، والذي يستهدف عدداً من القطاعات الواعدة وتعزيز القيمة المضافة من الحيازات الصغيرة والأنشطة الزراعية، وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية متوازنة عبر الاستغلال الأمثل والمستدام للموارد الطبيعية والزراعية والمائية المتجددة. كما أكد الملك سلمان استمرار جهود المملكة للارتقاء بالخدمات الطبية والرعاية الصحية، وتطوير الخدمات المقدمة للمواطن والمقيم في القطاع الصحي، ورفع جودتها من خلال برامج الإنفاق والتطوير الكبيرة، ونشر مفاهيم الوقاية ضد المخاطر الصحية. وأوضح خادم الحرمين الشريفين أن الدولة تواصل دعمها قطاع الاتصالات لتنفيذ الخطة الوطنية للطيف الترددي، لتحتل المملكة المرتبة الثانية في قائمة مجموعة العشرين لمجموع تخصيص النطاقات الترددية، ولتنجح في وصول خدمات الألياف البصرية إلى 5ر2 مليون منزل. وفي ملف التعليم، تم إنشاء مركز المناهج لتطوير السياسات والمعايير وفق أفضل الممارسات الدولية، فيما تم اعتماد نظام الجامعات الجديد، لرفع مستوى الأداء والارتقاء بمكانة المملكة العلمية والبحثية، بالتزامن مع زيادة عدد الجامعات الأهلية إلى 14 جامعة، والسماح بالاستثمار الجامعي الأهلي، لتحقيق التميز العلمي وتخريج أجيال قادرة على سدّ احتياجات سوق العمل. ونوّه خطاب الملك سلمان بجهود الدولة المستمرة لتطوير منظومة الحماية الاجتماعية، ورفع كفاءتها مع التركيز والاهتمام البالغين بالفئات الأشد حاجة، وفقاً لما ورد في رؤية 2030 من مستهدفات لتعزيز الرعاية الاجتماعية وتطويرها. * ملفّات أخرى عبّر خادم الحرمين الشريفين - في خطابه بمجلس الشورى - عن فخره واعتزازه بشهداء الواجب والمصابين من منتسبي القطاعات العسكرية والأمنية، الذين ضَرَبُوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء من أجل العقيدة والوطن، مؤكداً أن أسرهم ستظلّ دوماً موضعَ عنايته واهتمامه. وفي هذا السياق.. ركّز خطاب الملك على مواجهة الفكر المتطرّف، وترسيخ فكر الاعتدال والوسطية بالحوار والأدلة الشرعية. واستمراراً لسياسة تمكين المرأة، أوضح الملك أن بلاده ستواصل جهودها في رفع نسب مشاركة المرأة في القطاعين العام والخاص، منوّهاً بارتفاع نسبة المشاركة الاقتصادية للمرأة من 4ر19 % بنهاية العام 2017، إلى 2ر23 % بنهاية النصف الثاني من العام 2019. * استخلاصات ودلالات الخطاب رسم خطاب خادم الحرمين الشريفين في مجلس الشورى ملامح واضحة لسياسة المملكة داخلياً وخارجياً، كما أبرز وأشاد بأدوار وتضحيات مختلف فئات المجتمع السعودي، بلغة سهلة ومفردات واضحة، أظهرت مدى التقارب بين المتكلِّم والمتلقّي، بينما استُخدِمَتْ في الخطاب مفردات شديدة عند الحديث عن التحديات الإقليمية ومواجهة الاعتداءات الإرهابية والأطماع الخارجية. وهو خطاب متناسق ومناسب من حيث طوله، وسلس ومتناغم من حيث انتقاله من موضوع إلى آخر، ليشكل نموذجاً للخطابات السياسية الرائدة. وقد ختمه خادمُ الحرمين الشريفين، بالتأكيد - مرةً أخرى - على قناعته بالعلاقة التشاركية بين القيادة والشعب، في بناء مستقبل المملكة وتنمية رُبوعها.