عندما استمعنا إلى التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بخصوص الهجمات الإرهابية التي استهدفت منصات النفط في بقيق وربطناها بالتصريحات المتناقضة لنفس المسؤول سنة 2015 بخصوص اليمن استحضرنا ما قاله مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا حين أوصى أتباعه في أول سطر من مذكراته بتفادي الكتابة وتوثيق المواقف خصوصاً من طرف أولئك الذين يتعاطون للعمل السياسي والميداني. في هذا الصدد يقول حسن البنا: «وإن كنت أوصي الذين يُعرضون أنفسهم للعمل العام ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة، فذلك أروح لأنفسهم وللناس، وأبعد عن فساد التعليل وسوء التأويل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» (مذكرات الدعوة والداعية ص 8). هذا الطرح يُفسر، إلى حد بعيد، معالم البنية السلوكية الإخوانية والتي تُميز جميع التعبيرات السياسية لجماعات الإسلام السياسي التي حادت عن روح الدين الإسلامي الحنيف وحولته إلى مجرد أدوات ووسائل (بالمفهوم الاستراتيجي) للوصول إلى أهداف سياسية خبيثة. في هذا السياق، أثار الظهور الأخير للعراب الجديد لتيارات الإسلام السياسي رجب طيب أردوغان جدلاً واسعاً وردّات فعل عكسية على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تصريحاته حول الهجوم الإرهابي الذي استهدف منشأتي نفط شركة «أرامكو» في المملكة العربية السعودية، وهي ذات التصريحات التي وصفها البعض بأنها تفتقد إلى اللباقة الدبلوماسية والأدب السياسي والأخلاقي في التعاطي مع النازلة، حيث قال الرئيس التركي، خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه في أنقرة الاثنين 16 سبتمبر الماضي مع نظيريه الإيراني حسن روحاني والروسي فلاديمير بوتين، ما نصه: «علينا التمعّن في كيفية بدء الصراع في اليمن، هذا البلد دُمّر بالكامل، فمن تسبب في ذلك؟». وهو التصريح الذي حمل تلميحاً مبطناً وعبارات الشماتة والحقد على دولة يفترض أن لها مكانة روحية ورمزية قوية في قلوب جميع المسلمين. إن ما قاله الرئيس التركي يتناقض بشكل صارخ مع ما صرح به نفس المسؤول سنة 2015 عندما أعلن تأييده ل»عاصفة الحزم» ضد الحوثيين وموجهاً الدعوة إلى إيران للانسحاب من العراق وسورية واليمن، كما أن نفس التصريح يتناقض حتى مع بيان وزارة خارجية بلاده الذي أدان الهجوم الذي استهدف منصات أرامكو، حيث جاء في نص البيان «ندين تلك الهجمات التي تمت عن طريق طائرات مسيرة، ونشدد على أهمية تجنب الخطوات الاستفزازية والتي من شأنها إلحاق الضرر بالأمن والاستقرار في المنطقة والخليج». وإذا كان البعض يرى في التصريحات الأردوغانية الأخيرة ردة فعل مباشرة على الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودية إبراهيم العساف إلى قبرص في إطار تعزيز وتنويع الشراكات عبر منظومة ما يطلق عليه ب»دبلوماسية المحاور»، فإن ردة الفعل هذه افتقدت إلى التوفيق والنضج السياسيين على اعتبار أن قبرص تبقى دولة معترف بها من طرف المنتظم الدولي وعضو في هيئة الأممالمتحدة وتربطها مع المملكة العربية السعودية علاقات دبلوماسية قوية وليس هناك ما يمنع من قيام علاقات طبيعية مع هذا البلد، خاصة وأن الدبلوماسي السعودي طرح إمكانيات التعاون الاقتصادي بين البلدين وعبر عن أمله في التوصل إلى حل «سلمي» بين تركياوقبرص يرتكز على احترام القرارات الدولية وخاصة الأممالمتحدة ويطوي تاريخ طويل من الخلافات بين البلدين، وهو الموقف الذي ينسجم مع جميع المقررات الأممية ومواقف القوى الكبرى خاصة موقف الاتحاد الأوربي الأخير من الأزمة التي تحاول افتعالها أنقرة وفرض منطق الأمر الواقع لاستنزاف خيرات قبرص من النفط والغاز الطبيعي. لقد وقع أردوغان في المحظور عندما تماهى مع الأطروحة الإيرانية وتبنى نفس موقفها السياسي العدائي تجاه المملكة العربية السعودية، بالرغم من أن المجتمع الدولي قاطبة استنكر بشدة العملية الإرهابية الأخيرة والتي لا تهدد الأمن الاقتصادي والقومي السعودي فقط بل وتهدد الأمن الاقتصادي وأمن الطاقة العالمي وهو ما تم رصده في الأسواق العالمية عندما ارتفع ثمن برميل النفط إلى أزيد من 10 % مباشرة بعد الهجمات الإيرانية، الشيء الذي تفاعل معه العالم بقلق كبير وخلق لدى الجميع (باستثناء المحور التركي-القطري-الإيراني) القناعة بأن إيران تشكل، حقيقة، تهديداً جدياً لأمن المنطقة والعالم. على الوجه الآخر من العملة، ظهرت نفس نبرة الشماتة والخبث على محيا الرئيس الإيراني حسن روحاني من خلال تبادل الابتسامة الخبيثة مع نظيره التركي، وهو التعبير السلوكي المنحط الذي يدل على حجم الألم الذي سببته مملكة الحزم لهاتين القوتين الإقليميتين التوسعيتين، وهو ما يفرض علينا طرح مجموعة من الملاحظات العرضية حول الهجوم الأخير: أولاً: لا يمكن اعتبار هذا الهجوم الإرهابي نصراً تكتيكياً أو استراتيجياً يمكن أن تتباهي به إيران «سراً» وأذرعها الإرهابية «علناً» على اعتبار أن جميع الدول العظمى اكتوت بنيران الإرهاب المتطرف في مناسبات عديدة. ثانياً: طريقة تنفيذ الهجوم (غير المتوقع) من الشمال تقطع بأن النظام الصفوي في إيران أخذ عن الكيان الصهيوني تأثّره بعقيدة الاستراتيجي البريطاني بازل ليدل هارت والذي يؤكد على «ضرورة المناورة بشكل يسمح للمهاجم بضرب النقاط الأقل توقعاً والأقل تحصيناً». كما تم اللجوء إلى نفس الاستراتيجية التي يطلق عليها «استراتيجية الاقتراب غير المباشر» من خلال تنويع الضربات التي توجهها الأذرع الإيرانية في العراق واليمن وهو ما أطلق عليه «بورسيه» مبدأ «التشتيت المدروس»، والخطة ذات «الفروع المتعددة» من خلال «العمل على خط يسمح بالاختيار بين عدة أهداف ويهدد عدة أهداف في وقت واحد»، وهو ما يفسر الهجمات المتتالية على المملكة من الجنوب وهذه المرة من الشمال. وهنا نصل إلى نتيجة مهمة جداً والمرتبطة بطريقة تحرك الأذرع العسكرية الإيرانية في المنطقة والتي يبدو أنها تنضبط لخط استراتيجي خطير يعتمد على محاولة «القيام بهجوم غير مباشر على نقطة حساسة في تشكيلة «العدو» (ليدل هارت: الاستراتيجية وتاريخها في العالم، ص 167). أمام هذا الوضع الاستراتيجي الجديد تعاملت الرياض مع الحادث بذكاء كبير وحكمة أكبر، حيث حاولت ما أمكن تبني موقف «الكاظمين للغيض» وتفادي رد الفعل السريع الذي يمكن أن يُفقد المملكة ذلك الحشد والتضامن الدولي الكبير والذي قلما تحظى به دولة معينة في سياق التوازنات الإقليمية والدولية الجديدة. وعلى هذا الأساس تقوم الرياض، بتنسيق مع خبراء دوليين، بتجميع الأدلة والقرائن التي تُورط إيران في الهجمات على منصات أرامكو ومن تم التوجه نحو المجتمع الدولي لإحراج إيران وحلفائها والذين سيجدون أنفسهم في موقف سياسي حرج أمام الإثباتات المادية القوية التي تتوفر عليها المملكة. في نفس السياق، فإن مسارعة طهران إلى التبرؤ «تقيّة» من العملية الإرهابية الأخيرة يجد تفسيره في نقطتين أساسيتين: الأولى مرتبطة برغبة نظام الملالي في تقديم وإظهار أذرعه في المنطقة كوكلاء مستقلين يقوم بتسليحهم وتوجيههم للهجوم على خصوم طهران وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية مع تحميلهم المسؤولية السياسية لوحدهم بعدما تقوم إيران بنفي أي صلة لها بهذه الهجمات. والنقطة الثانية مرتبطة بقناعة نظام الملالي بقدرة (وليس رغبة) المملكة العربية السعودية على الرد بالمثل في ظل وجود العديد من البدائل والخيارات العسكرية من جهة، واستعداد المكونات العرقية وتنظيمات المقاومة الشعبية، الناقمة على النهج الديكتاتوري والاستئصالي الذي تنتهجه طهران، لنقل المعركة إلى الداخل الإيراني وخلق حالة من الإنهاك والفوضى لن يستطيع النظام الإيراني لملمة رداتها الاجتماعية والسياسية، على الأقل على المدى القريب، إن لم تساهم في إعلان نهاية نظام الملالي في إيران والعودة إلى مرحلة ما قبل 1979. وتجدر الإشارة إلى نقطة مهمة مرتبطة بالبيئة الاستراتيجية الداخلية لكل من المملكة العربية السعودية وإيران، حيث إن توجيه ضربة إرهابية للمملكة يساهم في كل مرة في تقوية التماسك الاجتماعي بين مكونات المجتمع السعودي وقيادته السياسية، في حين أن الداخل الإيراني مهيأ، أكثر من أي وقت مضى، للتفكك والفوضى مع أول ضربة لعمقه الحيوي، والتي ستفتح المجال، لا محالة، لإحياء مطلب الاستقلال الذي رفعته المجموعات العرقية التي عانت من دكتاتورية الملالي وتنتظر توفر الشروط الموضوعية لإعلان خروجها عن نظام الولي الفقيه. من هنا يرى البعض أن تحريك الأذرع العسكرية الإيرانية في المنطقة يروم بالأساس تصدير الأزمة الإيرانية إلى الخارج في ظل الاحتقان الخطير الذي تشهده يومياً الساحة الإيرانية، وأيضا اختبار ردة الفعل الدولية خصوصاً بعد الرد المحتشم الذي عبرت عنه الولاياتالمتحدة الأميركية بعد إسقاط طائرة استطلاع تابعة لقواتها الجوية في المنطقة بعدما اتهمتها طهران باختراق مجالها الجوي وهي الفاتورة الإيرانية التي يُعتقد أن قطر قامت بدفعها بعد تفاهمات معقدة. على هذا المستوى، نسجل ملاحظة مهمة و»متوقعة» وهي تلك المرتبطة بغموض وضبابية الموقف الأميركي على الرغم من قدرة واشنطن على كشف الجهة التي انطلقت منها الصواريخ والطائرات المسيرة خصوصاً وأن وكالة سي اي اي تتحكم في معظم الأقمار الاصطناعية في المنطقة وتملك أزيد من 41 % من الأسطول النشط في العالم وبإمكانها بسهولة الوصول إلى المعلومة الاستخباراتية حول الهجوم، وهو المؤشر الذي عبر عنه العديد من المسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم كبير الدبلوماسيين مارك بومبيو عندما أعلن بثقة كبيرة وبيقين أكبر عن تورط إيران في الهجمات الأخيرة على أرامكو في بقيق. على مستوى الحسابات الجيوسياسية، أكد الهجوم الإرهابي على أرامكو مصداقية الأطروحة السعودية-الإماراتية وحقيقة المخاوف من التمدد الإيراني في المنطقة والذي يهدف بالأساس إلى محاصرة المملكة في وضع ميداني يشبه فكي الكماشة الاستراتيجي من إخلال إحكام قبضتها على الدول القريبة من السعودية واستخدامها كمنصات لاستهداف أمن واستقرار المملكة. وبالرجوع إلى منطوق القانون الدولي، فإن ميثاق الأممالمتحدة يعطي الحق للمملكة العربية السعودية في استعمال جميع الوسائل المتاحة للدفاع عن نفسها والرد بالمثل وخاصة المادة 51 منه التي تنص على ما يلي: «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأممالمتحدة) وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي...». وبالإضافة إلى هذا الغطاء القانوني الدولي الذي تتمتع به الرياض فإن الدول العربية والإسلامية مطالبة بالوقوف بالجدية اللازمة أمام التهديدات الإيرانية للمنطقة، خاصة وأن طموحات هذه الأخيرة لن تقف عند حدود المملكة العربية السعودية بل ستسعى إلى بسط هيمنتها على جميع الدول العربية والإسلامية فيما يشبه استراتيجية «بقعة الزيت» التي نظّر لها هنري الخامس، والتي تعتبر تنفيذاً دقيقاً للخطة الخمسينية لآيات قم.