تذكّرك بعضُ الكتب بكتب أخرى، وإن لم يكن موضوع الكتابين واحدًا ولا متقاربًا، فقد تحملك فقرة شاردة لم يلقِ لها المؤلف بالًا إلى عوالم كتاب آخر، قرأتَه منذ سنوات، وغفا في غيابة مكتبك، وعلاه الغبار إن لم تجلله خيوط العناكب. قُدّر لي أن أقرأ رواية «سيدات القمر» للعُمانية جوخة الحارثي، فكان مما لفتني فيها المقطع الأثير الذي يختلف في أسلوبه التقريري وصياغته الخبرية عن بقية أجزاء الرواية، والذي يروي مولد أحد أبطالها (سنجور) في إحدى القرى الصغيرة بكينيا، وتذكر الرواية أنه آنذاك وقّع السيّد سعيد بن سلطان مع بريطانيا اتفاقية لحظر تجارة الرقيق، وتعهد عام 1845م بوقف هذه التجارة بين ممتلكاته الأفريقية والآسيوية، وتعهّد بالسماح لسفن البحرية البريطانية بتفتيش المراكب العمانيّة في المياه الإقليمية لعُمان وفي جميع أنحاء الخليج العربي والمحيط الهندي...إلخ. لكن سنجور – وهذا سرد الرواية – لم يكمل العشرين من عمره حتى كان هدفًا لقنّاصة القُرى الأكثر قوة، الذين تسللوا إلى قريته الغافية في الظلام واختطفوه منها، ثم جُمع إلى بقية المختطَفين، وشحن 270 منهم على سفينة إلى زنجبار، وعند وصولهم كان 60 منهم موتى، وجاء تجّار عرب وأفارقة واشتروهم بثمن بخس: دولاران عن كل رأس، ثم اجتازت إحدى السفن – وفيها سنجور – سفن التفتيش البريطانية، وآل الأمر بسنجور إلى أن وصل إلى ساحل الباطنة العُماني، ثم قضى بداء السلّ في بيت الشيخ سعيد، أحد رجال الرواية. هذه الأسطر من «سيدات القمر» التي ركّزت في إظهار الجانب السلبي من وجود العُمانيين في شرق قارة أفريقيا، ذكّرتني بكتاب «سقوط عرب الكونغو» والتحامل الشديد الذي ظهر في لغة مؤلفه الضابط الإنجليزي سيدني هايند على العُمانيين، حتى دفع ذلك المترجم البحريني أحمد العبيدلي إلى أن يثبت هذا التعليق عنه: يحمل خطاب هايند الكثير من مفاهيم نهاية القرن التاسع عشر، وارتباطه الشخصي بالمصالح الغربية القائمة حينذاك وانحيازه الفكري والعملي لها واستعداء الأفارقة ضد العرب، وتحميلهم الكثير من إرث تجارة الرقيق. لا أجد لدى بعض الكتّاب العرب فرقًا كبيرًا بين ما يصوّرونه عن تاريخ أوطانهم وبين توثيق ضباط الحملات الاستعماريّة، وهذا الأمر لا يُقصد به القدح في مقاصد العرب ألبتة، وإنما يُراد به الإشارة إلى أن اعتماد النظرة الغربيّة له تبعاته، من جهة أن الكاتب العربي في هذه الحالة لا يدقق في الحقائق، ويظهر في عقباه قاصرًا عن استجلائها بنفسه، وهذا من شأنه أن يبرز تصوراته وكأنها من قبيل النقل والتقليد الذي لا يتحلى بالقدرة على نقد المعلومة وتشذيبها، ونفتقد فيه الرؤية الخاصة المستقلة لدى الكاتب العربي. بيد أن مترجم «سقوط عرب الكونغو» لم يقع في هذا المأزق، فقد كان يعي منذ الصفحات الأولى ما يجري وما يوضع بين السطور، فأبرز مبضعه النقدي، وأخذ يعلّق على ما وجد أنه يستحق التنبيه والتمحيص. يقول هايند: «لطالما تاقت مجموعة من التجار العرب ومن صيادي العبيد والعاج إلى أن يحولوا تجارة أفريقيا الوسطى بكاملها إلى زنجبار». فيعلق العبيدلي بأن بعض الكُتّاب يعمدون إلى استخدام مصطلح صيادي العبيد والعاج لوصف بعض العرب الذين كانوا يمارسون تلك التجارة. وقد صدف أن ثُبِّتَت تلك الصفة بنحو أكبر وأوسع على العرب دون وجه حقّ. فالأوربيون ربما كانوا أكثر الشعوب التي مارست صيد العبيد والاتّجار به، أكان في الحضارات الكلاسيكية القديمة في اليونان وروما أم بعد اكتشاف الأميركتين. كما أن العديد من القبائل الأفريقية، وكما سيظهر في هذا الكتاب، كان يمارس تلك العادة. وكانت الدول الأوروبية من أوائل الدول التي أوقفت ممارسة العبودية. أما بالنسبة إلى صيد الفيلة والاتجار بعاجها فقد كان الأوربيون والأفارقة والعرب جميعًا منغمسين فيها، وقُدّر أن ينتظر العالم حتى حلول منتصف القرن العشرين تقريبًا لبدء تغيّر جذري في هذا الاتجاه. وفي أي حال، فلربما لكون منطقة شرق أفريقيا من آخر المناطق التي مُنع فيها الاتجار بالرقيق، فقد سُلطت الأضواء على بعض ممارسي التجارة من العرب، ولم توضع تلك الممارسة في سياقها التاريخي. *باحث وروائي. الغلاف الإنجليزي الغلاف العربي