أترى الوتين الذي يمد الفؤاد نبضه، أترى اللبابة في جوف الشجرة توزع في عروقها ماءها، أترى الروح تحمل الجسد وتجعل فيه معنى الحياة، حتى إذا ما تحشرجت النفس ولفظتها هوى الجسد هامدًا دونما حراك.. هذه الروح هي الوطنُ. الوطن معنىً نرضعه صغارًا كما نرضع اللبن، قبلة نثتمل بها وتختمر في رؤوسنا بينما نكبر، فكرة تأتمننا عليها الأيام ونشبّ نغترف مزيدًا من رحبها آمادًا وآماداً. نحمل له ولاء عظيماً ولا ندري من أين تنبع عظمته، نهبّ من أجله هتافًا ودعاءً ودفاعًا ولو لم يطلبه منّا إنسيّا، نذكره في كل محفل وتلهج ألسنتنا بشكره دون الغريب والقريب. ما معنى أن تغلي غيظًا إذا ما ذكره أحدهم بسوء، ما معنى أن تمشي في كل دولة وأنت حريص كل الحرص على تمثيله خير تمثيل، ما معنى هذه الفرحة العارمة التي تشتعل بجوفك كلما رأيته يزداد رفعةً. إنه الوطن ولا شيء سواه، الذكريات والحب الأول والمنزل الذي إليه دومًا يكون الإيابُ، الأم الرؤوم التي ستظل تذكرك وتذكرها وسيبقى حضنها دائمًا لك مشرعاً، الحنين الذي يمزقك كلما عنه ابتعدت تظل ذكرى سماه تطاردك ذكرى ثراه ذكرى أناسه وذكراه.. ودائماً دائماً ذكراه. مثلُ رحمٍ يلملم أنفاس جنينه، مثلُ عشٍّ يحتضن أفراخه الوليدة، مثلُ هدهدة الرضيع في حنايا حضنٍ يغفو آمنا، لعله هكذا شعورُ وطنك، أرضٌ أزلية الوجود، خُلقت من قبلك.. خُلقت لتحتويك، لتمسد رأسك رضيعًا وتلاعبك طفلًا وتلاطفك شابًا وتغطيك بحنوٍّ حينما تقفل عائدًا إلى ثراها في آخر رحلة العمر. الوطن أول ضحكة يطلقها ثغرك، أول خطوة في طرقاته العريضة تخطوها، أول درس تاريخ يلقن لك عنه.. عن الأجداد الذين كانوا، عن الأبناء الذين شيدوا، عن الأحفاد الذين حافظوا ورعوا وشدوا سواعد الشعب وإلى آفاق أرحب.. انطلقوا. الوطن هو أنت، هو همُ، هو الواحد والجميع. الوطن هو أنت بذكراك بانتمائك بعظيم ولائك وأخلص وفاك، الوطن معنى بك ينهض، أرضُ خلاء تنظر عمرانك يجمّلها، أنت وكل من معك وكل من سبق وكل من سيلحق الركب.