نُكرّر باستمرار العبارة الشائعة: «القافلة تسير والكلاب تنبح» للتعبير عن عزمنا على المضي قُدماً، وعن رفضنا للانشغال بما لا طائل من ورائه، فالرغبة والطموح يدفعان المرء للسير في حياته إلى الأمام لتحقيق أحلامه وما يصبو إليه بقوة وثبات، لكن طريق كل واحدٍ منّا لا يمكن أن يخلو من عوائق هامشية عديدة يمكن وصفها بأنها «كلاب نابحة» لا يعني التوقف عندها، والانشغال بها، إلا هدر الوقت والجهد وتأخير وصول القافلة إلى الأهداف الكبيرة المرجوة. وسأتحدث هنا بإيجاز عن نموذجين لانشغال «قافلة» اثنين من المبدعين، هما جرير الخطفي وإسماعيل بن جامع، بالكلاب «المجازية» و»الحقيقية»، مع الإشارة إلى ما نتج عن ذلك الانشغال من ندمٍ على إهدار جزءٍ ثمين من العمر يستحيل استرجاعه. استخدم الأصمعي الفعل «ينهش» ليُبيّن لنا حجم الشراسة والعنف في المعركة الهجائية الكبرى التي خاضها الشاعر جرير ضد خصومه من الشعراء، وذكر أنّه «كان ينهشُهُ ثلاثةٌ وأربعونَ شاعراً، فينبذُهم وراء ظهره، ويرمي بهم واحداً واحداً، وثبت لهُ الفرزدق والأخطل»؛ وقد وصف جرير نفسه تلك المعركة التي طال أمدها فقال: «والله ما يهجوني الأخطل وحده، وإنّه ليهجوني معه خمسون شاعراً كلُهم عزيزٌ ليس بدون الأخطل، وذلك أنّهُ كان إذا أراد هجائي جمعهم على شرابٍ، فيقول هذا بيتاً وهذا بيتاً، وينتحل هو القصيدة بعد أن يُتمِموها». وفي (الأغاني) يورد أبو الفرج الأصفهاني خبراً طويلاً تضمّن أسماء وقصائد العديد من الشعراء الذين هجوا جرير وهجاهم، وبينهم شعراء «نكرات» لا يكاد أحد يعرفهم في زمننا هذا أو سمع عنهم من قبل، مثل غسّان بن هذيل والبعيث وعمر بن لَجأ وسُراقة البارقي والمستنير العنبري والعباس الكندي وجفنة الهزاني، وقائمة طويلة من الشعراء الذين وصفهم جرير في خبرٍ -سيأتي بعد قليل- بالكلاب. يُضاف إليهم شعراء آخرون ترفّع الشاعر عن الرد على هجائهم وأشهرهم بشار بن بُرد الذي لم يخجل من التصريح بهدفه الخفي من هجاء جرير فقال: «هجوت جريراً فأعرض عنّي، ولو هجاني لكُنتُ أشعر الناس». في ذلك الخبر الطويل يُبرّر جرير للحجّاج بن يوسف الثقفي سبب هجائه لخصومه واستخدامه لأبشع أنواع العنف اللفظي ضدهم فيقول: «والله إنّي ما أظلمهم، ولكنهم يظلمونني فأنتصر». وقد ساق الشاعر الأسباب المتنوّعة التي أرغمته على التصدّي لكل واحدٍ منهم بالهجاء والقذف، ولكنه في خبر آخر يُعبّر عن شيء من التحسّر لانشغاله بهجاء خصومه، الذين وصفهم بالكلاب، عن أحد أهم الأغراض الشعرية التي كان مُتاحاً له الإبداع والتفوق فيها، فقد قال جرير في مرحلة من مراحل حياته: «والله لولا ما شُغلت به من هذه الكلاب، لشبّبتُ تشبيباً تحنّ منه العجوز إلى أيام شبابها». يتمكّن الناظر في ديوان جرير الضخم من إدراك حقيقة واضحة وهي هيمنة غرض الهجاء عليه، إذ نظم، بحسب إحصائيات الدكتور عمر الإمام، ما لا يتجاوز 17 قصيدة غزلية تمثل نسبة (84%) يُقابلها عدد 261 قصيدة هجاء تُشكل ما نسبته (59%) من مجمل الديوان؛ مما يعني أن هذا الغرض لم يلتهم غرض الغزل فقط، بل كان كالوحش المرعب والقبيح الذي التهم الكثير من الجمال والرقّة التي لم يُقدّر لها الظهور في أغراض الشاعر الأخرى، ويكفي أن يطّلع المرء على نقائضه مع خصمه الّلدود الفرزدق لمعرفة ما تنطوي عليه عبارته السابقة من تحسّر أو رغبة صادقة بالرجوع إلى الماضي واستغلاله استغلالاً أمثل، فقد انشغل جرير بالشعراء «الكلاب»، واستهلك طاقته الإبداعية وأوقاته في الخصومات المفتعلة والهجاء والكلام البذيء، في حين كان من الأفضل له لو ركّز تلك الطاقة وذلك الوقت في إبداع قصائد بديعة ونابضة بالحب والخير والجمال، وما أكثر ما تنشغل قوافل شعراء مبدعين، غير جرير، بأمور هامشية تافهة، غير الهجاء والقذف، تُعطل مسيرة إبداعهم وتُضيّع عليهم فرصة التقدّم الوصول إلى قمم أعلى لا يصل إليها إلا قلّة قليلة من الشعراء. الشاعر جرير