منذ بزوغ فجرها الأول عام 1157ه، إثر لقاء الدرعية التاريخي الشهير بين الإمام محمد بن سعود الذي كان أميراً للدرعية يومئذٍ، وبين الإمام محمد بن عبد الوهاب، ذلك اللقاء الذي اتحد فيه السيف والكتاب وتعهد فيه الأول بحماية الثاني ونصرته، ليسفر عن تأسيس الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود. أقول منذ ساعتئذٍ كان الهدف محدداً والوجهة واضحة جلية المعالم: إعلاء كلمة الله، مناصرة عقيدة التوحيد، تصحيح العقيدة ومحاربة كل أنواع الشرك البدع؛ تحت ظل تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الرعية عظيمها وصغيرها، وعلى هذا الأساس استمر الحال في الدولة السعودية الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود حتى أفول نجمها عام 1233ه. وما هي إلا سبع سنوات عجاف حتى أطل نجمها من جديد عام 1240ه، على يد البطل الإمام تركي بن عبد الله، صاحب السيف الأجرب على المبدأ نفسه؛ وبعد سبعة عقود يغيب نجمها للمرة الثانية، ليطل هذه المرة بقوة بعد أن قرأ مؤسسها التاريخ جيداً، فعزَّز الإيجابيات وعالج السلبيات في غضون عقد وحيد يتيم.. بزغ نجمها من جديد هذه المرة كمارد مذهل مدهش يوم استولى المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، الرجل الزاهد الصالح البطل الفذ على الرياض عام 1319ه، مستعيداً ملك آبائه وأجداده المجاهدين الغر الميامين، ليؤسس الدولة السعودية الثالثة الراسخة الفتية، التي ما نزال نتفيأ ظلالها الوارفة؛ وهذه المرة أيضاً على المبدأ السابق نفسه الذي تأسست عليه الدولتان السعوديتان السابقتان الأولى والثانية. وقد أكد المؤسس الملك عبد العزيز هذا المبدأ في أكثر من مناسبة، إذ يقول: (نحن آل سعود لسنا ملوكاً.. ولكننا أصحاب رسالة)، وقد أردف هذا بمقولات خالدة عبر مسيرته الشاقة الطويلة التي استمرت لنصف قرن من العمل والكفاح والجهاد من أجل تحقيق الحلم؛ مؤكداً صدق المبدأ الذي تأسست عليه دولة آل سعود منذ فجرها الأول، كقوله مثلاً: (أنا أدعو إلى دين الإسلام ونشره بين الأقوام، وأنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنَّة رسوله.. إن فخرنا وعزنا بالإسلام...) إلخ. ثم التفت المؤسس بعد ذلك إلى سن تنظيمات فعالة تمكن قاصدي بيت الله الحرام وزوار مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أداء الفريضة بكل يسر وسهولة، كترتيب شؤون المطوفين، والأدلاء والوكلاء والزمازمة، لخدمة الحجاج وتعريفهم بالطريقة الصحيحة لأداء هذه الشعيرة العظيمة كما ينبغي. كما أسس المديرية العامة للحج لتنظيم عمليات الحجاج من استقبال وتيسير إجراءات الإقامة والسكن والطبابة والتنقل بين المشاعر المقدسة، ومن ذلك تخصيص مخيمات لاستراحة الحجاج في المدينةالمنورةوجدة. بل أكثر من هذا، أصبح الملك عبد العزيز منذ دخول الحجاز تحت مظلة الدولة السعودية، يشرف على الحج بنفسه لاستشعاره أهمية هذه الرسالة السامية العظيمة الخالدة التي شرفنا بها الله سبحانه وتعالى في العناية ببيته ومثوى رسوله صلى الله عليه وسلم وخدمة ضيوف الرحمن ورعاية شؤون المسلمين حيثما كانوا في هذا العالم الفسيح، ولهذا شيد ثلاثة قصور في طريقه إلى الحج من نجد إلى مكةالمكرمة في مرات والدوادمي والمويه. هذا فضلاً عن إقامة المؤسس في مكةالمكرمة طيلة أيام الحج، واجتماعه برؤساء الوفود من كل دول العالم والترحيب بهم وإكرامهم، والتباحث معهم في كل ما يهم شؤون المسلمين حيثما كانوا، خاصة الأقليات الإسلامية في الغرب، وغيره من الدول غير الإسلامية. وبعد نصف قرن من الزمان قضاه المؤسس في ترسيخ ركائز الدولة وبسط الأمن وخدمة ضيوف الرحمن بكل ما استطاع من وسيلة تيسرت له آنئذٍ، انتقل إلى جوار ربه ليتسلم الراية أبناؤه الكرام البررة بعده، سائرين على الدرب نفسه، مقتفين أثره في خدمة الدعوة وحمايتها، ورعاية شؤون المسلمين منذ سبعة عقود تقريباً بعد رحيل والد الجميع المؤسس، يقودون المسيرة على المبدأ نفسه، وها هم اليوم يتولون شؤون نحو ملياري مسلم في العالم، تحقيقاً لحلم والدهم الذي أفصح به لبروكلمان يوم قال له: «إن وفَّق الله أولادي كما وفقني، فسوف يتولون شؤون مئة مليون مسلم».. كل خلف يضع مزيداً من اللبنات على بناء السلف، حتى علا البنيان وأصبح شامخاً بعون الله تعالى وتوفيقه، ثم بالنية الصادقة والعزيمة الماضية والعمل بجد وإخلاص لاستمرار دولة الدعوة والرسالة في أداء مهمتها السامية العظيمة.