تسعى الحضارات كافة إلى الاعتزاز بهويتها وتوظيفها في نمو أفرادها والنهوض بهم إلى ما يحقق لهم التربية الصحيحة ويكفل لهم السلوك السوي، ويهيء لهم النماء والتقدم. والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). ومن أعظم الحكم في الحج: أداء الشعيرة وتحقيق التوحيد والتجرّد لله في العبادة والتأمل في شأن المسلمين الذين يفدون إلى المشاعر من كل فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات. وفي الحج دروس كثيرة يندر أن تظهر في غيره، ولعل من أهمها: ما فيه من تربية النفس وزكاء المجتمع والتكافل والتعاون بين المسلمين وإظهار روح الجسد الواحد. ذلك أن الحج هو الموقف الكبير الذي يذيع صيته في أنحاء الدنيا كل عام، فالعالم كله بمؤسساته الإعلامية المختلفة يحرص على تغطية هذا الحدث العظيم كأكبر مركز تجمّع بشري على مستوى العالم إذ لا يمكن أن يفد أكثر من ثلاثة ملايين شخص في نقطة تجمع واحدة في مدة وجيزة مع توفر كافة الخدمات والإمكانات وتأهب كافة الأجهزة، واستعداد مختلف القطاعات للإسهام والمشاركة في نجاح تثمنه القلوب قبل الأعين. جميل أن نحرص على أداء النسك لما فيه من الإيمان وتحقق أركان الإسلام، والأجمل أن يتشوّق أبناؤنا للحج ويفهموا مقاصده ويستشعروا حِكَمه؛ لما في ذلك من تهذيب النفوس وتوجيه السلوك وتطهير القلوب والتحفيز على الاستقامة والاستمرار عليها واستشعار نعم الله وفضله علينا، وعلى بلادنا وعلى المسلمين بأن يسر للجميع أداء نسكهم في أحسن حال وأتمه. إن تحقق الاستطاعة مدعاة للحرص والسعي لأداء هذا النسك العظيم الذي تتأهب له كثير من النفوس وتسعى إليه، وما نشاهده من أولئك الذين لم تتوافر لهم أسباب الحج إلا بعد أن بلغوا من العمر عتيّاً كيف هي مشاعرهم وهم يفدون للأماكن المقدسة، ويستشعرون جليل النعمة مع أن بعضهم تجاوز السبعين والثمانين بل وحتى المائة، سواء كان يمشي بضعف أو على كرسي متحرك أو محمولاً؛ ترى في محياه نظرة النعيم وتلهج كل جوارحه بالحمد والشكر لله تعالى الذي يسّر له أداء هذه الفريضة العظيمة التي ربما قضى سائر عمره وجهده ووقته وماله سعياً للاستعداد لها. سيّما مع هذه الرعاية الكريمة من قادة مملكتنا الحبيبة للحرمين وقاصديهما من الحجاج والمعتمرين والزوار وتوفير كافة السبل لأداء النسك في أحسن الظروف والإمكانات. إن من واجبنا تجاه أنفسنا وأبنائنا وبناتنا أن نستشعر عظم الحج وما فيه من الدروس والحكم والقيم العظيمة للنفس والمجتمع، ونحفزهم للمبادرة في أداء هذه الفريضة العظيمة خصوصاً مع تحقق الاستطاعة واستشعار فضل الله وجليل منته بأدائها لتكون متحوَّلاً في الاستقامة والمنهج القويم والحياة الكريمة.