تمر أوقات على المرء يصبح كل شيء ضبابياً مشوهاً، لا تستبين له ملامح، لكأنما تنظر من وراء نافذة ممطرة، لا شيء يعبر من الوراء عدا ظلال طويلة مموهة وأضواء شاحبة خاطفة.. تمر عليه أوقات نعيد فيها الحسابات إلى جذورها الأولى، ويستحيل له ذلك الكائن الذي هو نفسه إلى شخص غامض، مبهم التاريخ، خالٍ من الذكرى، من هو ذا؟ وما تراه في دنياه يفعلُ؟ ينهض كل تفصيل صغير في حياته بوصفه كتابًا غير مقروء، يتصفحه لأول مرة، ويقرأ فواصل حياته، المهنة التي يمتهن الزوج الذي يألف، الأولاد السارحون من حوله، كل الموجودات التي لها عاش وفيها أنفق سنوات عمره وبها دفع يومًا تلو اليوم أمامه، كلها تتشوه ملامحها، ولا يغدو إنس أو جامد مألوفًا.. ثمة أوقات لابد أن نعيد فيها فتح الدفاتر، ونمسك قلمًا، ونحسب من جديد أهداف عمرنا، لماذا نسير؟ ولأجل أي شيء؟ وإلى أين ستنتهي خطانا؟ أريد لحياتي أن يكون لها معنى، فيها لون محدد، ليس بالضرورة أن تتعدد الألوان فقط لون يضفي عليها ميزة ما، اسم يسمها ويميزها عن الكائن من حولها، وأجرد فيها الإنسانة التي هي أنا أمامي، أدرسها بأناة وأقرأ ما بين دفتي ضلوعها، وأجس النبض الذي يحييها، ماذا أنجزت؟ ماذا من طموحها حققت؟ ماذا تريد؟ لم تريده؟ من هي؟ وأعدل هذا الخط المائل كثيرًا من سطر الضمير، أدق مسمارًا في الروح الصدئة عله يبث فيها روحًا جديدة وليدة، أفتش في القلب عن خبيئة صالحة وأدسها في كف الدعاء، خبيئتي يا رحمن فلتنفس عن مهجتي تلك الضوضاء.. ماذا قالوا عنها..؟ وقفة ؟.. محاسبة؟.. بصيرة؟ مفترق طريق نتريث عند عتباته قليلاًِ، نهدئ وتيرة التنفس اللاهث قليلاً، وننظر للأمام القادم مليّا، نمسح عن وجهه الضباب المعتم، نختار رفقة أقل أو أكثر، نفتش في وجوه الأسرة التي منها نبدأ الحياة وبها نختمها، ننزع الألفة من محاجرها وننظر لهم.. بعين جديدة، نقترب أكثر، فنعرف أكثر، ننفض أشغالًا تأكل أعمارنا، نذرها في خلايا الهواء، نتنفس بعمق ونشحذ شيئاً من الهمة، وبالشخص الجديد الذي ولد فينا.. نبدأ طريقًا جديدًا، وفصلًا جديدًا، وحياة أخرى تختلف ولو بنقطة حبر عن الكتاب السابق من أعمارنا.