|المجتمعات العربية تدرك حساسية العلاقة ما بين الفرد والمجتمع، فسعت إلى إيجاد مواءمة بينهما في المسائل التي تتعلق بالثوابت والمبادئ والقيم الأخلاقية على النحو الذي تجسده الأدبيات العربية الإسلامية بعد انحسار العصر الوسيط ودخول عصر النهضة الأوروبي، ومع بدايات المرحلة التكنولوجية للمجتمعات الصناعية، تشكل عصر الفردانية بوصفه شكلًا من أشكال الوعي الأوروبي وإحدى نتائج الفكر الليبرالي. لقد كان هنالك اعتقاد سائد في الغرب بأن أسباب المأساة الحادة للإنسان تكمن في التعارض ما بين الوجود الفردي والمجتمع، ما دفعه إلى إشاعة الطابع الفردي في الحياة الاجتماعية. لقد أحدث عصر النهضة تغييرات في البنية الاجتماعية الغربية، تمثلت في إلغاء وصاية المجتمع على الفرد، الذي كان سائدًا في مرحلة ما قبل الحداثة الأوروبية والانتقال به تدريجيًا إلى الفردانية. فالمفكر إيريك فروم يرى أن عصر النهضة قوض أركان النظام الاجتماعي التقليدي، الذي كان سائدًا في العصور الوسطى، وجاء على إثره بزمن الفرد الحديث. ورغم أن هذا الكلام ليس هو التوجه الغالب في المجتمعات العربية، ولم يأخذ بعد مكانه في الثقافة الاجتماعية العربية، إلا أنه عالميًا قضية مرتبطة بمظاهر الحداثة الاجتماعية التي رافقت الانفتاح الاقتصادي الرأسمالي. وإذا كانت الفردانية اليوم موضوع العالم الحديث، إلا أن مفهوم الفردانية والمجتمع لا يزال موضع تعارض ما بين الثقافتين الغربية والشرقية، فدلالة الطابع الفردي للأجناس تختلف باختلاف البيئات الثقافية والاجتماعية. ففي البيئة الغربية تسود الفردانية بشكل مطلق، بينما تسمح البيئة الشرقية بتقييم خيارات الفرد من النواحي التي تهم المجتمع. فنجد أن الثقافات الشرقية - كما هو الحال في الصين مثلًا - ترى أن المجتمع مقدم على الفرد، انطلاقًا من أن حاجات الفرد يجب أن تخضع لحاجات المجتمع، وهي النظرية الاجتماعية التي قامت عليها الحياة الاجتماعية الصينية والمستمدة من تعاليم كونفوشيوس. أما اليابان فتنظر إلى الفرد والمجتمع كعلاقة تكاملية. وقد سعت الهند بعد تداعي نظام الطبقات إلى إيجاد مواءمة ما بين الفرد والمجتمع، وذلك عن طريق إعادة النظر في الثوابت الاجتماعية والمتغيرات في حركة تسويات وتوافقات داخل المجتمع الهندي، الذي أفسح المجال لنظام اقتصادي جديد تعززت فيه الفردانية. وإذا كانت المجتمعات الغربية تقدم الفرد على المجتمع، فإن الليبرالية أخذت على عاتقها تطوير مفهوم الفرد بعد تداعي النظام الاجتماعي التقليدي، وذلك عن طريق تقوية مركز الفرد في المجتمع. لهذا يؤكد الليبراليون الجدد، أن على العالم أن يتبنى قيم الغرب الليبرالية، ويعتبر مفهوم الفردانية إحدى تلك القيم في محاولة لتعميم النموذج الاجتماعي الغربي على المجتمعات الأخرى بوسائل سياسية واقتصادية وثقافية وتقنية. ومع انتقال الليبرالية إلى مرحلة أخرى على يد توماس جيرن المتأثر بالفيلسوف الألماني هيجل، الذي رأى أن الفرد يحقق ذاته عندما يكون له دور في المجتمع، وذلك عن طريق أن لا حياة للفرد إلا عن طريق علاقته بالكل. ولكن إذا كان الإنسان في وضع لا يمكنه التلاؤم مع الوسط الاجتماعي أو التصالح معه، تصبح الفردانية هي المخرج أمامه، ولكن حتى في هذه الحالة، فإن المجتمعات العربية تضع الفرد في خانة العزلة الحتمية. مع التسليم بأن المجتمعات العربية اليوم تشهد تحولًا تدريجيًا نحو الفردانية، إلا أن الروابط لا تزال قوية بين الفرد والمجتمع، وهذا الترابط الذي يُنظر إليه على أنه واجب اجتماعي لا يحظى بهذه النظرة نفسها في المجتمعات الغربية، بل ينظر إليه كعقبة تحول دون الاستمتاع بالحياة. ولكن الموقف الأمثل حيال قضية الفرد والمجتمع هو احترام حرية الفرد الأساسية، وتقييم خياره النهائي من النواحي التي تهم المجتمع العريض، وتقييم الآثار التي تترتب على هذا الخيار سلبًا أو إيجابيًا. هذا من ناحية الفرد، ومن ناحية أخرى هنالك كثير من الظواهر الفردية التي قد تشكل - عندما تتكاثر ويتراكم أثرها - ظواهر اجتماعية تدرس من حيث أثرها في المجتمع كله، وينظر إليها من حيث كونها تيارًا اجتماعيًا، وهل الأثر النهائي لهذا التيار الاجتماعي على وفاق مع قيم المجتمع الذي يعمل فيه، أم أنه أثر سلبي يؤدي إلى خلخلة الأسس التي يقوم عليها المجتمع، أو على الأقل يؤدي إلى اضطراب المعايير الاجتماعية وتنشيطها في اتجاه الاختلال وعدم التوازن؟ هذا ومعروف أنه من حق المجتمعات أن تعمل على حماية كياناتها والحفاظ على شخصيتها المتميزة بالصورة التي يجمع عليها أفراد تلك المجتمعات من غير مساس بالحق الأساسي للفرد. وحق المجتمع قد يقدم على حقوق الأفراد، غير أنه يتأكد ويتعزز بتأكيد حقوق أفراده، ولكن تبقى علاقة الفرد بالمجتمع علاقة تكاملية وتفاعلية. والحقيقة أن المجتمعات العربية تدرك حساسية العلاقة ما بين الفرد والمجتمع، فسعت إلى إيجاد مواءمة بينهما في المسائل التي تتعلق بالثوابت والمبادئ والقيم الأخلاقية على النحو الذي تجسده الأدبيات العربية الإسلامية. فقد كانت تلك المجتمعات منفتحة على الفرد، وبالروح المنفتحة نفسها يتفاعل الفرد مع المجتمع. إن ثمة أبعادًا حضارية تتجلى في تجسير العلاقة ما بين الفرد والمجتمع كعنصر من عناصر الاستقرار الاجتماعي والثقافي والحضاري.