يحتاج الكاتب مثله مثل أي إنسان على هذه الأرض أن يختلط بالآخرين، ويتفاعل معهم، ويعيش ويتعايش، فهو في النهاية ليس كائنا فضائيا، وإنما هو واحد من هؤلاء الناس، وقد يُستمَد من حياته كثير من الأفكار، أو يلهمه الآخرون مزيدا من الأفكار والأصوات التي يحتاج إليها كمادة خام لكتاباتها، لكنه رغم ذلك كله يحتاج أيضا إلى العزلة لكي يكتب، والعزلة التي قد تكون صارمة أو موحشة أحيانا، وقد تكون هذه العزلة في بيته أو مكتبته الخاصة، أو قد يحتاج أحيانا إلى السفر بعيدا حتى عن وطنه لكي يكتب رواية، كما حدث مع الروائي الكندي يان مارتل حين سافر إلى الهند ليكتب روايته الشهيرة (حياة باي)، الذي علّق على ذلك قائلا: "ذهبت إلى الهند لأعمل على رواية تقع أحداثها في البرتغال. اخترت الهند لأنه بلد محفز للغاية وأرخص من كندا، لذلك اعتقدت أنها المكان المثالي لكاتب كندي لكي يكتب روايته". أو قد يحتاج الكاتب أيضا إلى الذهاب إلى مكان بعيد وهادئ كالمكان الذي وصفه الروائي بيكو أيير بقوله: "هكذا ركبت سيارتي وقدتها ثلاث ساعات شمالا بمحاذاة الساحل، حتى أصبح الطريق فارغا وأضيق من ذي قبل، ثم انعطفت إلى مسار أشد ضيقا بالكاد هو مرصوف ويمتد كأفعى لقرابة ميلين ارتفاعا إلى قمة جبل، وعندما خرجت من سيارتي، كان الهواء يتدافع، وكان المكان صامتا تماما، لكن الصمت لم يكن غياب الضجيج، وإنما كان في الحقيقة حضورا لنوع من الطاقة أو النشاط. بموازاة قدميّ كانت صفحة زرقاء ساكنة من المحيط الهادئ. ومن حولي 800 فدّان من الأشجار البرية الجافة، فنزلت إلى غرفتي التي أنام فيها، صغيرة ولكنها مريحة للغاية، فيها سرير وكرسي هزّاز ومكتب طويل ونافذة أطول منه مطلة على حديقة صغيرة مطوقة بجدار، ومن ثم 1200 قدم من نبات البامبس الذهبي يمتد نزولا حتى البحر. جلست وبدأت أكتب، وأكتب وأكتب". بل ربما أكثر من ذلك قد يحتاج الروائي إلى جزيرة معزولة، كما فعل الروائي البرتغالي الراحل خوزيه ساراماغو حين أقام في جزيرة لانزاروت بجزر الكاريبي هو وزوجته، ولكن لماذا يفعل الروائي ذلك؟ ويفرض على نفسه كل هذا الحصار من العزلة؟ يقول المفكر الألماني والتر بنيامين: "إن قارئ الرواية هو القارئ الأكثر وحدة بين القراء؛ ما يعني أنه يتطلب وحدة صارمة وعزلة لقراءة رواية". هذا القول الذي استدركت عليه الروائية إليف شافاك بقولها إنه ليس قارئ الرواية وحده من يحتاج إلى هذه العزلة وإنما كاتبها أيضا، وأضافت: "الرواية في الواقع نوع خاص من الحوار غير المعلن من خلال الكلمات بين شخصين وحيدين. يشتركان به دون انتقاص من وحدتهما ويفتحان قلبيهما، لكن دون أن يعرف أحدهما الآخر على الإطلاق". وللروائية التشيلية إيزابيل تفسير أيضا لجدوى هذه العزلة بالنسبة للروائي فتقول: "حين تقضي وحدك كثيرا من الساعات – كالساعات التي أقضيها يوميا - صامتا، سيصبح بوسعك رؤية هذا العالم. أتصور أن الناس الذين يتأملون ساعات طويلة، أو الذين يقضون وقتا طويلا وحدهم في الدير أو في مكان هادئ آخر يؤول بهم المآل إلى سماع أصوات ورؤية مشاهد؛ لأن العزلة والصمت يشكلان عنصرا أساسيا لهذا الوعي".