يقول أحد الآباء: لم أتقاعد بعد من العمل لكني ألاحظ مؤشرات التقاعد في التغيير داخل البيت. أسترجع ذكرياتي مع ممارسة الأبوة . كنت القائد، السلطات كانت كلها بيدي. أقرر أين نسكن وماذا نأكل، وماذا نشتري، وإلى أين نسافر، كنت أتولى تفاصيل السفر من الألف إلى الياء. جميع أفراد العائلة يتواجدون حولي بحب، يطلبون مشورتي، يسألون عن معلومة، يستأذنوني في كل شؤونهم. كنت الأب والقائد والمعلم والمدير والصديق وصاحب القرار. الآن ورغم كوني لم أتقاعد بعد، ألاحظ تغيراً في العلاقة، وتراجعاً في دوري كأب. كان الأبناء يطلبون الخروج معي فأفرح بتلبية طلبهم، الآن أطلبهم للخروج معي فتصدمني أعذارهم التي لا حصر لها. كنت أعرف أين يذهبون ومتى يعودون، الآن قد يمر أكثر من يوم دون رؤيتهم. كنا نقضي أوقاتاً طويلة ممتعة، نلعب ونتحاور، ونتناول الوجبات مع بعض. الآن سرقتهم مني وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه وسائل يصح تسميتها وسائل التباعد العائلي. الآن نتواصل عبر الجوال، عبر الوسائل الإلكترونية الجافة. نتواصل بها حتى داخل البيت. الكل مشغول (بالآخرين)، لا أحد لديه الوقت للجلوس مع العائلة، لا أحد يسأل عن الأب إلا عند الحاجة، تحولت إلى صراف آلي. لا أحد يسأل عن أحوالي، عن صحتي، عن مشكلاتي. أنتظر من يبادر بالمشاركة والتعاون. يقابلك الابن بعد غيبة، يرفع يده قائلاً: هلا، ويتجه إلى شأنه! أحدث الأصدقاء أجدهم يعانون نفس المشكلة، ويوجهون اللوم إلى أنفسهم لأن التربية كانت عاطفية جداً، تعبير عن الحب بدرجة مبالغ فيها لا تتيح للأطفال التعود على المشاركة واكتساب الخبرات. تربية توفر للطفل كل شيء لكنها لا توفر له فرص بناء الشخصية. تربية لا تفيد الطفل في مستقبله وفي علاقاته بعائلته وفي حياته العملية. تربية مركزية حيث كل القرارات صغيرها وكبيرها من صلاحيات الأب أو الأم. وفي نهاية المطاف يقع اللوم على الجيل الجديد. يحاصرهم الكبار بالنقد المتواصل على أخطاء وسلبيات هي أساساً أخطاء في أساليب التربية. هذه حالة تشبه حالة المدير المركزي الذي يفكر نيابة عن الجميع، ويقوم بكل شيء نيابة عن الجميع ثم يكتشف عندما يحتاج إليهم أن فريق العمل لم يتعلم ولم يتقدم. يجب هنا التفريق بين جيل جديد يعيش في ظروف مختلفة وله فكر وتطلعات وأدوات مختلفة وهذا أمر طبيعي لا اعتراض عليه، وبين سلوكيات غير مقبولة في أي زمن مثل الاتكالية، وسوء التغذية، وعدم المشاركة في مسؤوليات الأسرة، والسهر، وضعف العلاقة العائلية. هل تأخر الوقت على تعديل السلوك؟ هل الحالة ميئوس منها؟ الإجابة هي (لا) كبيرة لأن الحوار التربوي الصريح المباشر الذي يتم بين أفراد الأسرة تحت مظلة الحب ويقدر تعليم الشاب وسنه وطموحاته هي الخطوة الأولى لبدء مرحلة تغيير تحقق الرضا للجميع بتوفير بيئة أسرية يسودها الحب والتعاون والاحترام، ويقودها الكبار بأسلوب التوجيه والقدوة وليس بأسلوب السيطرة. وهذا ما يجب أن يسود أيضاً في بيئة العمل.