أيدَ المنُونِ قدَحتِ أيّ زِناد وأطرتِ أيّ شعلةٍ بفؤادي أوهَنتِ عزمي وهو حَملةُ فيلقٍ وحَطَمتِ عودي وهو رُمحُ طِرادِ لم أدرِ هَلْ خَطبٌ ألمَّ بِساحتي فَأَنَاخَ، أَمْ سَهْمٌ أَصابَ سَوَادِي؟ تمر أيامنا وليالينا بسرعة عجيبة، نلتهي في حياتنا وأعمالنا وأسرنا ولا نشعر بالعمر إلاّ عندما تمرّ علينا ذكرى مؤلمة أو سعيدة.. فحياتنا جميعها موقوفة بين فرح وألم، بين سعادة وشقاء، بين ضحك وبكاء، فالدنيا محطات لن ينجو من مُرّها بشر: اِصبِر لِكُلِّ مُصيبَةٍ وَتَجَلَّدِ وَاعلَم بِأَنَّ المَرءَ غَيرُ مُخَلَّدِ أَوَما تَرى أَنَّ المَصائِبَ جَمَّةٌ وَتَرى المَنِيَّةَ لِلعِبادِ بِمَرصَدِ عام كامل على رحيلك يا أبي.. لم أشعر به إلاّ حينما علمت أن اليوم هو الذكرى الأولى لفقدان ذلك الرجل العظيم الذي لن يتكرر.. كم كان فقده موجعاً وأليماً، لم أكن أتصور في يوم من الأيام أن أذهب إلى ذلك المنزل ولا أجد رائحة أبي.. إنها سنة الحياة وأمر الله سبحانه وتعالى؛ ولكن الإنسان إذا تعلق بشيء فإنه لا يستطيع نسيانه فما بالكم لو كان والده.. مرّ عامٌ كامل امتلأ بالآلام والحرقة على فراقك، بعد أن توسّدتَ الثرى أيها الطاهر.. رحلت وتركت لوعة شوق في قلبي لا أظن الزمان سيطفئها، رحلت ولا أدري كم من السنين أحتاج لأستوعب أنك لم تعد بيننا، كنتُ أظن أن دمعاتي الحارة التي انهمرت على جسدك الطاهر لحظة وداعك ستوقظك لتعود، غير أنه سرعان ما تبدّد أملي وتيقّنت وقتها أنه الوداع.. لن أنسى ذلك اليوم الذي فارقتنا فيه؛ ففارقت السعادة قلبي، حتى وإن ضحكت وسَلوت، فالألم والحزن ما زالا يعتصران قلبي، كيف ذاك ومنظر جسدك الطاهر المسجّى على النعش ما فارق عيني.. والله يا والدي.. ما تفرّدتْ بي الوحدة إلا ورأيتك أمامي بكل بهائك، فتفيض عيناي حزناً وألماً وحنيناً، ووالله ما وضعت رأسي على وسادتي إلا ويمرّ شريط ذكرياتك فأستحضر مواقفنا والأيام التي خلت، وحينها لا أملك سوى ذرف الدموع.. يُبه.. يا أكثر ثلاثة حروف تخنقني يُبه وينك؟ سؤال ومات بلساني يُبه وينك؟ جوابي حيل يشهقني مثل ما متّ.. مات الحكي بلساني رحلت يأبي وتركت وراءك نفوساً أنهكها الشوق لرؤيتك، وسماع صوتك، وشمّ رائحتك، والأُنس بعذب حديثك والنظر إلى وجهك، والإنصات لصادق نصحك وفيض حكمتك، لقد كنت للجميع مصدر سعادة، وحضناً دافئاً يرتمي فيه من تدلهم به عواصف الحياة.. رحلتَ يا أبي وتركت خلفك كنوز خير وبِرّ وحُبّ، رحلت والكل يعلم أنك ما عشت لنفسك بل لغيرك، بذلت وسعيت وعملت، رحلتَ وذكرك الطيّب ما غاب ولا انقطع.. ولا أملك الآن شيئاً لأَصِلك به سوى الدعاء لك كلما ذكرتك.. فوالله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلاّ وذكرك مقرونٌ بأنفاسي اللهم ارحم ميتاً ما زال في قلوبنا حياً.. اللهم أنزله منازل الشهداء، واجعل الفردوس مقامه، اللهم أنزل على قبره الضياء والنور، والفسحة والسرور، اللهم قِهِ السيئات «ومَنْ تقِ السيئات يومئذٍ فقد رحمته». قَدْ كِدْتُ أَقْضِي حَسْرَةً لَوْ لَمْ أَكُنْ مُتَوَقِّعَاً لُقْيَاكَ يَوْمَ مَعَادِي فَعَلَيْكَ مِنْ قَلْبِي التَّحِيَّةُ كُلَّمَا نَاحَتْ مُطَوَّقَةٌ عَلَى الأَعْوَادِ