تعيدني رائحة المطر إلى تلك اللحظات الجميلة التي كنت ألهو فيها مع أصدقائي ورفاقي ونحن نستحم تحت شآبيب المطر الذي ينعش أرواحنا. كانت تجذبني رائحة الفل والياسمين في الصباح الباكر إلى منزلنا الكبير في مدينة أبها، والذي كانت تحيط به الزهور وأشجار اللوز والفواكه الشهية مثل التوت والخوخ والعنب. أما رائحة الورد فمازلت أذكرها منعشة لذكرياتي وهي تنبعث من بين الصخور في قرية المفتاحة بمدينة أبها الجميلة. وأذكر دوماً رائحة أزهار الفاغية التي كانت تنتشر في أرجاء بعض الحدائق الصغيرة المحيطة ببعض المنازل في المدينةالمنورة. رائحة البن المطحون والهيل والزعفران تذكرني بدلة ونجر ومحماس زوجتي المولعة بحب القهوة العربية. رائحة الكعك التي كانت تنتشر في أرجاء المنزل، تذكرني بحرص جدتي ثم زوجتي بصنع الكعك اللذيذ لموسم الأعياد، وخاصة عيد الفطر المبارك. رائحة البخور تعيدني دوماً إلى المناسبات السعيدة، إلى يوم الجمعة والأعياد. وتعيدني البيوت القديمة إلى رائحة الطين التي تنبعث منها، أما رائحة الكتب فهي رائحة لا يشعر بها وبالحنين إليها إلا من عشق القراءة. وهذه الرائحة تنتشر من خلال مادة الليغنين "Lignin"، وتأتي من الورق المصنوع من الأخشاب المرتبطة بمادة الفانيلين المستخدمة في صناعة الحلوى. وكلما كان الكتاب قديماً انطلقت منه الرائحة بشكل أكبر. مجموعة من الروائح تتمرد على أنوفنا، وتتسرب سريعاً إلى عمق الذاكرة في عقولنا.. تحمل الكثير من الرسائل المحفزة التي تغذي قلوبنا ومشاعرنا. ومن الناحية التشريحية فإن تلك الروائح تأتي من خلال البصلة الشمية التي تقع بجوار مركز الذاكرة، وهذا المركز الموجود في الدماغ هو المسؤول عن صناعة الذكريات طويلة المدى، وتتصل هذه البصلة الشمية بمركز المشاعر أو ما يسمى باللوزة الدماغية، ولذلك فالروائح المنتشرة تذهب مباشرة إلى المناطق المسؤولة عن الذكريات في الدماغ، وهذا يفسر ارتباط الروائح بمشاعر الشوق والحنين وغيرها من الأحاسيس. وفي سلسلة من التجارب وجد الباحثون في العام 2001 أن مريضاً استحضر ذكرى أليمة، وانتابه شعور قوي بالغثيان والذنب عندما شم رائحة الوقود، لقد ارتبطت لديه تلك الرائحة بحادثة احتراق سيارة أمامه ولم يتمكن من التدخل. وللروائح دور في التسويق وجذب العملاء، ففي دراسة أجرتها إحدى المجلات المتخصصة في الإدارة العام 2013 أن الرائحة التي تنتشر في المكان ذات تأثير كبير في تقوية رغبة المستهلكين في قضاء وقت أطول في بعض المتاجر والسوبرماركات، وتكرار الزيارة بغرض الشراء. أما كيف يمكن استخدام الروائح لإنعاش الذاكرة وتحفيز الشراء فهي لعبة يتقنها خبراء التسويق، وتسعى بعض شركات الحلوى الشهيرة بمخبوزاتها المحشوة بالقرفة مثلاً إلى اختيار متاجر بطريقة تسمح لرائحة مخبوزاتها بالانتشار في هذه المتاجر لأطول فترة ممكنة.