أصوات بكاء تعالت في غرفة الولادة في إحدى مستشفيات الرياض، ظهر التاسع من ذي الحجة عام 1406ه، والحجيج على صعيد عرفات، والمسلمون في شتى أنحاء العالم يستمعون إلى خطيب عرفة. الوالدان يتبادلان التهاني والابتسامات بقدوم (نورة). حمداً لله على سلاسة الولادة وشكراً له على قدومها بعد أخواتها الثلاث. لم يكن في الحسبان ولا في تقدير الأمور أن تتكرر الحالة بعد مضي نيف وثلاثين عاماً لتكون (نورة) على السرير الأبيض بابتسامة مشرقة تصعد روحها وتتوقف أنفاسها، ووالداها حول سريرها يجهشان بالبكاء عند آذان عصر يوم الثلاثاء الرابع عشر من ذي الحجة، يخالطهما استسلام لله على قضائه وما قدره. رحلت نورة.. وفي النفوس لوعة وفي الفراق فاجعة، ولكنها أقدار الله على العباد. رحلت نورة.. ضاربة أروع الأمثال في الصبر على البلاء وتقبل أقدار الله، وتقول لكل من زارها وحادثها بما أصابها: إذا كان هذا قدري فحمداً لله، وإذا كان مقدراً لي العافية، فسوف تحصل رغم كثرة علاجاتكم، وتعدد نصائحكم، وإذا كان مقدراً الوفاة فهذا قدري، ويومي، ولا راد لذلك. رحلت نورة.. والتي كان على اسمها نور للبيت ودرة بين إخوانها الذكور، تستمع إلى نقاشاتهم واختلافاتهم، ثم تجيب ويكون جوابها هو الفصل بينهم، ومنطقها هو المقبول عندهم. رحلت نورة.. والتي استقبلت قدرها في الزواج من فارس طرق باب والدها رغبة فيها وما سمع عنها وترددت كثيراً كيف تتزوج وهي صغيرة ولم تكمل دراستها. ثم تقول بلغة جعلت والدها يعجز عن الإجابة (أبوي.. الخير فيما اختاره الله) عبارة أسكتت الألسن وأوقفت التفكير. رحلت نورة.. وهي تواجه صعوبة أخرى في حياتها وما تعرضت له أسرة زوجها من حادثة مروعة، فكان هناك خيار صعب أن تنجب طفلها الثاني في الرياض أو تنتقل مع زوجها وتشارك أسرته مصابهم الجلل، فكان الخيار الثاني هو خيارها. ويشاء الله أن تضع مولودها الثاني (عبدالعزيز) في وسط حزن وعزاء، وكانت إرادة الله غالبة. ورحلت نورة.. بعد أن أخذ المرض منها مأخذه وأنشب أنيابه، وأحست بدنو أجلها، فلم تجزع بل قالت أمام والداها وإخوانها (أفوض أمري إلى الله) ولن أتوانى في عمل الأسباب كلها. رحلت نورة بين حزن والدين ولوعة زوج، وخوف أطفال. ماذا حدث لأمي، يردد ذلك أحد أبنائها (ماتت أمي) عبارة تصم الآذان وتزلزل القلب، وتدمع العين (نعم ماتت رحمها الله). في يوم مشهود توافدت تلك الجموع الغفيرة للصلاة عليها والعزاء في مصابها، ليتساءلوا فيما بينهم. (أحقاً ماتت نورة)؟. أحقاً غاب ذلك الوجه البشوش، وغابت تلك الابتسامة، تذكر والدها تلك العبارة الجميلة التي ترددها بين حين وأخرى (الله يسخر لي الطيبين من عباده). رحلت نورة وليس في قلب أحد إلا المحبة لها والحزن على فراقها. سلام عليك يا نورة يوم وفاتك، وسلام عليك يوم دفنك، وسلام عليك يوم تبعثين أمام الله في اليوم الآخر. سلام عليك يا نورة في الآخرين. وكما رزقك حب الناس لك في الدنيا، أن يمنّ على أبنائك بالصلاح والبر لك ليبقى ذكرك الطيب وسيرتك العطرة.