إبان الحكم العثماني، عاش العراقيون أسرى لسياسة التهميش، التي انتهجتها الأستانة التركية في تعاملها مع العنصر العربي عموماً، كنوع من فرض الهيمنة والإمعان في إبعاد العرب عن مواطن التحضر والرقي المدني، ولعل هذه الثنائية العدائية تتكرر اليوم لدى منهجية حزب العدالة والتنمية التركي في تدخلاتها المشبوهة داخل العمق الجغرافي العربي، كضرورة عرقية تستدعي تاريخ ثنائية الروم - العرب، تماماً كما يصنع ملالي طهران بثنائية الفرس - العرب، وتظل النمطية الدعائية لمشروعهما الاحتلالي في المنطقة العربية تتخذ الصورة الدينية كحالة تغليفية واستدعائية لثنائية المذهب السني - الشيعي، وكاستراتيجية تتمنهج على جذب المتعاطفين والسذج العرب. إن إشكالية النظام البعثي السابق في العراق، أنه اختزل الوطنية والهوية العربية في مسلمات الحزب البعثي، وأبجدياته المقبورة، وفرضها بالقوة على مجتمع يتميز بالتعددية الإثنية، كما أن الأحزاب المتأسلمة (سنة وشيعة ) قد عمقت الفجوة كثيراً بين العراقي وهويته العربية، عبر ترسيخها البشع لمعنى الفتنة الطائفية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في تمييع الهوية العربية في العراق. واليوم، تحاول طهران عبر أجندات ممنهجة تسعى من خلالها إلى تغييب الهوية العربية عن العراق عبر سياسة التهجير القسري، وتغيير النمط الديموغرافي ،الذي انتهجه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ورغم كل هذه الجهود العملاقة، إلا أن الشعب العراقي وجد في هويته العربية صورة رمزية تاريخية للتسامح والمواطنة في ظل التعدد الديني والإثنية العرقية. إن أحلام طهران الواهنة تفوق قدراتها العسكرية والاستخباراتية في المنطقة، وفي ظل تعنتها الأرعن وإصرارها الإعلامي على أن بغداد ودمشق هما امتداد طبيعي لعمقها الجيوسياسي في المنطقة، يعتقد كثير من المحللين السياسيين أن هذا الاستنكاف هو خطوة انزلاقية لتهاوي إمبراطوريتها المزعومة، وما الاحتجاجات الشعبية المتفجرة في الأقاليم والمدن العراقية سوى رسالة صريحة لاستعادة الهوية العربية، ولا سيما أنها تتضمن التنكيل بصور الخميني كرفض جلي للوجود الإيراني في العراق. وأخيراً؛ في ظل التعدد الديني في العراق عبر الحضور الإسلامي والمسيحي واليهودي والأزيدي، إلى الحضور الطائفي الإسلامي عبر ثنائية السنة والشيعة، إلى الحضور العرقي والحضاري المتعدد، تظل الهوية العربية العنصر الجامع للعراقيين كثقافة حاضرة وذهنية حضارية لكل هذه التقاطعات الإثنية والتعددية؛ لأنها تشكل الصبغة الثقافية التي طغت على المشهد الاجتماعي العراقي طيلة الألف سنة الماضية، ومن المستحيل أن تنتزع هذه الهوية المتجذرة في عمق الذهنية العراقية، مهما حشد الملالي من أجندة ومؤامرات لتغيير ملامح الهوية العريقة.