تعيش الساحة الجزائرية منذ 22 من فبراير الماضي على وقع احتجاجات شعبية متواصلة عمت معظم المدن الجزائرية، وذلك كردة فعل عكسية على ترشح الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة، في ظل الحديث عن عدم قدرة هذا الأخير على مباشرة مهامه الرئاسية في ظل وضعه الصحي المقلق والذي عرف تدهوراً ملحوظاً منذ الجلطة الدماغية التي تعرض لها سنة 2013م. ولعل المعادلة الصعبة، والتي تجعل من مسألة التنبؤ بالمستقبل السياسي الجزائري جداً صعبة، تكمن في قناعة القوى السياسية المعارضة في الجزائر وكذا القواعد الشعبية بعدم قدرة الرئيس بوتفليقة "صحياً وسياسياً" على ممارسة مهامه الرئاسية، في الوقت الذي يصطدم فيه هذا الإجماع بغياب التوافق حول شخصية كاريزمية تحظى بإجماع التيارات السياسية ولها امتداد شعبي بين أوساط ومكونات الشعب الجزائري. هذا الواقع السياسي عبر عنه السيد فتحي غراس الأمين العام للحركة الديمقراطية في الجزائر حين قال: "لا نستطيع أن نجتمع (يقصد الأحزاب السياسية المعارضة) لأن مشروعاتنا مختلفة". في هذا سياق، فإن الرصد التاريخي للتعبيرات السياسية للشعب الجزائري، وعلى خلاف ما يعتقد البعض، يُفيد بأن الظاهرة الاحتجاجية كانت سمة بارزة في التعبير السياسي للجزائريين، وهو ما يفسر مستوى النضج والعقلانية والمسؤولية التي ميزت، لحد الآن، مختلف محطات الحراك الجزائري الذي انطلق منذ يوم 22 فبراير من السنة الجارية. في هذا الصدد، يمكن أن نقف عند بعض المحطات الاحتجاجية في الجزائر والتي بصمت الربع الأخير من القرن الماضي، ابتداء من الأحداث التي عرفتها منطقة القبائل بتاريخ 20 أبريل 1980، والتي تمت مواجهتها من خلال الاعتماد على مقاربة أمنية صرفة، ثم الأحداث التي شهدتها الجزائر العاصمة من خلال التظاهرات الضخمة التي تم تنظيمها بتاريخ 5 أكتوبر 1988م والتي دفعت الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن جديد إلى إقرار بعض الإصلاحات السياسية لتجاوز الواقع المحتقن الذي عرفته البلاد، ووصولاً إلى الأحداث الدموية التي أعقبت إلغاء الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية بتاريخ 9 فبراير 1992، والتي اصطلح عليها إعلامياً ب "العشرية السوداء" حيث ذهب ضحيتها قرابة ربع مليون جزائري نتيجة أحداث مؤلمة لم تحسم الشهادات والكتابات التاريخية في المسؤولين المباشرين عنها، في ظل وجود قرائن قوية على وجود بصمات للتنظيمات المتطرفة ممثلة، بالأساس، في الجماعة الإسلامية المسلحة (GIA) وكذا الجيش الإسلامي للإنقاذ (AIS)، الذي كان يقوده مدني مزراق، والذي كان يمثل الذراع العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) ذو المرجعية الإخوانية والتي كان يتزعمها كل من عباس مدني وعلي بلحاج. في سنة 2001 ستفرض السلطات الجزائرية حظراً على التظاهرات، ليتم رفع حالة الطوارئ سنة 2011م. وبحلول شهر فبراير من العام الماضي حاول الآلاف من الأطباء حديثي التخرج التظاهر للتعبير عن بعض المطالب القطاعية، غير أن هذا الاحتجاج تصدت له الشرطة الجزائرية وقامت بمنعه، ليتكرر نفس سيناريو الاحتجاجات في نفس الشهر من هذا العام، لكن هذه المرة كان الانخراط الجماهيري قويّ حيثُ عرفت الاحتجاجات مشاركة عشرات آلاف من الجزائريين عقب صلاة الجمعة في كل من الجزائر العاصمة وعنابة، المسيلة، سطيف، قالمة، جيجل، بجاية، تيزي وزو، البويرة، بومرداس، تيارت، غليزان، وهران وورقلة. ومنذ ذلك الحين عرفت شوارع الجزائر نزولاً منتظماً للمتظاهرين دون تسجيل حالات الانفلات الأمني أو التخريب، وهو المعطى الذي عكس حالة النضج الشعبي لدى مختلف أطياف الشعب الجزائري. ويفرض التعاطي الموضوعي مع الحراك الجزائري يفرض، سلفاً، التقيد بالرصد الأكاديمي والانضباط الأخلاقي، على اعتبار أن ما يقع في الجزائر هو، بالأساس، شأن وطني داخلي يخص الشعب الجزائري والمؤسسات التي تمثله فقط، مع التنبيه إلى أن الطبقة السياسية وقوى المجتمع المدني هي المعنية، دون غيرها، بإيجاد التركيبة السياسية والمؤسساتية الكفيلة بعودة الهدوء والاستقرار في بلد المليون ونصف شهيد، وهو ما سيفوت الفرصة على المتربصين بأمن واستقرار الجزائر في ظل تجارب تاريخية أثبتت أن هناك تيارات راديكالية تحاول الاستفادة من أية بيئة استراتيجية متقلبة لخلق حالة من "التوحش" يمكن إدارته لما يخدم أجندات التنظيمات الدينية المتطرفة وكذا تيار الإسلام السياسي، والذي، وكما يبدو، يراهن كعادته على منطق "المنطقة الرمادية" في انتظار أن تتضح له الرؤية وتتبين له موازين القوى لينضم إلى الطرف الأقوى ومحاولة الاستفادة من هذا الحراك بما يخدم أجندات "التمكين" للتنظيم الإخواني في الجزائر. على المستوى الشعبي، يمكن القول إن ردات الفعل العكسية ضد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة تميزت بمسحة شعبية غابت عنها القدرة التأطيرية للأحزاب السياسية الجزائرية والتي تم إضعافها، تاريخيا، واستبعادها من مسلسل صناعة القرار السياسي والمساهمة في اختيار رأس الدولة. وبالعودة إلى التاريخ السياسي الجزائري، فإن جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الجزائر تم تنصيب معظمهم بعيداً عن المنطق الانتخابي أو المنهجية الديمقراطية، وهو المعطى الذي كان يتماشى مع "التوجهات الثورية" للقادة الجزائريين في ظل نظام القطبية الثنائية الذي كان مسيطراً على التوجهات السياسية والاستقطابات الدولية. وهنا نسجل أن أول رئيس جزائري بعد الاستقلال فرحات عباس، والذي كان ينتمي إلى ما كان يعرف بالحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA)، تم الانقلاب عليه من طرف الجناح الثوري في جبهة التحرير الوطني ممثلاً في الرئيس أحمد بن بلة بدعم من هواري بومدين، ليقرر، بعدها، هذا الأخير الانقلاب على بن بلة بتاريخ 19 يونيو 1965م. وبعد وفاة هواري بومدين سنة 1978م، سيتم تعيين رابح بيطاط كرئيس مؤقت (27 ديسمبر 1978- 9 فبراير 1979)، ليتم بعدها تنصيب الشاذلي بن جديد الذي تم إجباره على تقديم استقالته بعد النتائج غير المتوقعة إبان الانتخابات التشريعية الجزائرية لسنة 1990م، ليخلفه الرئيس محمد بوضياف والذي تم اغتياله في مدينة عنابة في ظروف تطرح أكثر من علامات استفهام، ليعقبه كل من علي كافي (2 يوليو 1992- 30 يناير 1994) ثم اليامين زروال (30 يناير 1994- 27 أبريل 1999)، قبل أن تُطوى رئاسة الجمهورية الجزائرية لعبد العزيز بوتفليقة منذ سنة 1999. إن البسط التاريخي لتداول السلطة في الجزائر يُعد مدخلاً أساسياً لفهم طبيعة البنية المؤسساتية في هذا البلد، وهو ما جعل القوى السياسية تبتعد عن منطق التنافس عن سلطة، خصوصاً بعد غياب جميع الرموز التاريخية والقومية عن الحياة السياسية، كان آخرهم الرمز الأمازيغي القوي الحسين آيت أحمد والذي غيبه الموت بتاريخ 23 ديسمبر 2015 بعد صراع طويل مع مرضٍ عضال. على الجانب الآخر، فإن التوجس الذي تعبر عنه القوى السياسية في الجزائر وكذا مجموعة من الأطراف الإقليمية والدولية، يجد ما يبرره في مجموعة من الإكراهات الجيوسياسية رغم الإجماع حول صعوبة قيادة الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، مستقبلاً، لدفة شؤون البلاد في الجزائر. هذا التخوف مرده، بالأساس، إلى عدم وجود شخصية متوافق عليها، حتى لو انبثقت من خلال انتخابات رئاسية يكون للشعب الجزائري فيها القرار الأول والأخير، وهو المعطى الذي قد يُنذر باعتلال الوضع الأمني في الجزائر. ولعل ما يدعم هذا التخوف، هو تشابه محددات البيئة الاستراتيجية بين الجزائر وليبيا، لاعتبارات مرتبطة بالعمق الجغرافي والقرب من أوروبا، ووجود حدود مترامية الأطراف مع ليبيا ومالي والنيجر يصعب ضبطها، في ظل الأنشطة المتزايدة لمجموعة من التنظيمات الإرهابية الموالية لداعش والقاعدة، بالإضافة إلى المعطيات الاقتصادية المرتبطة بالنفط والغاز، والتي تجعل من الجزائر محط أطماع قوى إقليمية ولوبيات قادرة على عمل أي شيء من أجل الاستفادة من حالة اللا استقرار في الجزائر. وهنا نتذكر الدور الخطير الذي لعبته قطر في ليبيا بعد فشلها في الحصول على امتيازات مهمة في قطاعي النفط والمصارف، وهو ما دفعها إلى تدبير مؤامرة متعددة الأطراف ساهمت في تأجيج الوضع في ليبيا وانهيار البنية المؤسساتية في هذا البلد الذي كان يصنف على أنه من أغنى الدول الإفريقية. من خلال ما تم طرحه من محاولة لتفكيك البيئة الاستراتيجية الجزائرية، يرى بعض المحللين أن الرهان في الجزائر يبقى مرتبطاً بسياقين متكاملين: السياق الأول: مرتبط بالمعطى التكتيكي، من خلال ضرورة العمل على ضمان تأطير جماهيري ومواكبة مؤسساتية تضمن عودة الهدوء للجزائر من خلال الاستجابة لمطالب الشارع والانفتاح على جميع القوى السياسية، وفتح نقاش جدي وهادئ حتى تعود الحياة السياسية إلى طبيعتها، وفق خارطة طريق متوافق عليها. السياق الثاني: مرتبط بالبعد الاستراتيجي، من خلال وضع استراتيجية واضحة يمكن أن تساعد في عملية التحديث وبناء المؤسسات وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لفائدة الشعب الجزائري. ولعل هذا التحدي المستقبلي هو الكفيل بالتحرر من ثقل الماضي وحساباته العقيمة وإعلان مصالحة حقيقية بين السلطة والشعب في الجزائر. هذا الرهان يجد ما يُعززه على الأرض من خلال لزوم الجيش الجزائري لثكناته وإعطاء مجال أكبر للشارع الجزائري للتعبير عن مطالبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. انطلاقاً من تحليلنا للوضع السياسي في الجزائر ورصد الإكراهات الجيوسياسية في المنطقة فإننا نعتقد أنه جميع الأطراف في الجزائر مطالبة بأن تكون في مستوى اللحظة التاريخية التي يمر منها الوطن الجزائري من خلال استحضار صوت العقل والحكمة والمصلحة العليا للجزائر، والتي تمتلك من العقول والرجال ما سيمكنها، لا محالة، من تجاوز المرحلة بأقل التكاليف بما يخدم المصالح الاستراتيجية للجزائر وللفضاء المغاربي والإقليمي الذي تنتمي إليه.