الدولة الراشدة (البراغماتية)، هي التي تتكيف مع المتغير، فتكون متفاعلة دون تماهٍ مع هذا أو انعزال عن ذاك، وتتسلح بالعقلانية ليمكن لها التغلب على الصعاب وإلا أصبحت كائناً جامداً غارقاً في الضياع.. تساؤلات تدور في الذهن حول هذه الأجواء الملبدة في عالمنا العربي، وكأنها مخاض لا يلبث أن نخرج منه بتأسيس جديد لمرحلة جديدة هي في طور التشكل والتجاذب. لسنا من أصحاب التفاؤل المفرط أو التشاؤم المحبط، فإن قراءة ما يحدث يشير بأننا بصدد مسار طويل، نتذكر تداعيات الربيع العربي دفعت البعض آنذاك إلى تفاؤل مفرط بالتحول إلى الديمقراطية وهي في تقديري رؤية غير دقيقة حيث لم يسندها الواقع السياسي والاجتماعي، كما أن المسألة لا تتعلق فقط بإسقاط أنظمة بل إن المعيار بما تم إنجازه من عملية التغيير. هذه الأيام وفي بعض الدول العربية نشهد أوضاعاً غير مستقرة وحراكاً ومطالب شعبية ما يعني أن تلك الشعوب عانت كثيراً ووصل بها الحال إلى ما نراه الآن، بدليل أن بعض الأنظمة نجحت فعلاً في تعطيل عقل الإنسان العربي ليصبح أسيراً للشعارات وخادماً لها دون وعي أو إرادة. الواقع الراهن، وتراكماته، تقودنا إلى أن المشهد قد تغير بدليل الحراك والتساؤلات والمطالب المطروحة. السياسة هي فن الممكن، وبالتالي الدولة الراشدة (البراغماتية)، هي التي تتكيف مع المتغير، فتكون متفاعلة دون تماهٍ مع هذا أو انعزال عن ذاك، وتتسلح بالعقلانية ليمكن لها التغلب على الصعاب وإلا أصبحت كائناً جامداً غارقاً في الضياع. غير أن الخشية تأتي من بعض الأصوات التي لا تنفك تندفع بعواطفها سلباً أو إيجاباً. والبعض منها قد يكيل الإطراء لهذه الدولة أو ذلك النظام لمجرد القيام بإجراءات هامشية وليس إصلاحات جذرية، في حين أن البعض الآخر قد يذم ذلك التوجه، منطلقاً من قاعدة الرفض على الدوام دون التعامل مع المسألة بشكل موضوعي وواقعي، وهذه قضية شائكة متجذرة في بعض العقليات العربية التي لا يمكنها الانسلاخ من مواقفها الشخصانية. المعضلة هي في الأزمات التي تواجهها الدول العربية كالفقر وقلة الموارد والإمكانات والأمية والبطالة والطائفية وتفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء فضلاً عن عقد اجتماعي بدساتير تحقق تطلعات الشعوب. من الطبيعي أن تكون هناك قرارات صعبة وهنا تبرز أهمية المشاركة السياسية كون النضج الديمقراطي يأتي تدريجياً مع الممارسة الديمقراطية، ومع ذلك لن تجدي نفعاً الحكومات التي تفشل في سياساتها من إلقاء اللائمة على مشجب المؤامرة، أضف إلى ذلك أن الدولة الريعية لم تعد منتجة في ظل عالم بمفاهيم جديدة. الوصول للعالمية أو دخول ميدان التنافسية لذلك يتطلب قراءة عميقة لمعطيات الداخل وظروف الخارج، فالهدف ليس الشعاراتية بقدر ما أنه يكمن في مستقبل أجيال. ومع ذلك فالمراقب لتعاطي بعض الدول العربية التي تعاني هذه الفترة لم تستطع الانسلاخ من مفاهيم الأيديولوجيا والطائفية والانتهازية والفساد. هذا واقع ماثل، فتلك العقلية الطافحة بالنرجسية وتضخم الأنا، تنفرد في نموذجها ولا تصغي لمطالب وأصوات المحتجين فهي لا تؤمن بالحوار، وتتمسك بقناعاتها حتى لو تعارضت مع المصالح العليا الوطنية. ولعمري تلك تراكمات لم تلبث أن أخذت موقعها الراسخ في القاع السوسيولوجية للعقلية العربية، وكيف لها أن تتلاشى وجذورها تعمقت عبر السنين، ولو لم تكن بذلك التجذر والرسوخ، لما عاشت إلى عصرنا الحاضر في انتقال جيني من جيل لآخر. بات معلوماً أن ثمة تحديات تواجه تلك الدول وحالة من الترقب تعيشها شعوبها تتمثل في انتظار الخروج من هذا النفق المظلم عبر ترسيخ المواطنة وإخماد الطائفية، ولا يفوتنا التذكير بدور الثقافة المضادة التي شكلت نمطاً من وعي التخلف في مضامينها فسحب مسار التطور الإنساني إلى الخلف، دليل على وجود تخلف فكري. وهنا يبرز دور صاحب القرار السياسي الفطن في قراءة معطيات الراهن وتداعياته واستباق المفاجآت بالاضطلاع بالمسؤولية وتقديم تسويات، وربما إذا تطلب الأمر تقديم تنازلات لقفل الباب أمام المتربصين. تحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبله، والإصغاء لمطالب التيارات والشارع يعزز فكرة المواطنة كونها تتسامى فوق الاختلاف وتحجم والنزاعات الحزبية والفكرية وتلغي ما قد يشوب العلاقة ما بين الدولة والمجتمع من احتقان وعدم ثقة.