ثمة علاقة طردية واضحة المعالم بين انتشار الفساد وتدهور الأخلاق وبين التخلف والانحطاط. هذه العلاقة واضحة المعالم لمن يراقب حال بعض المجتمعات. فما تدهورت الأخلاق والقيم الفضلى إلا وتدهور الوضع العام إجمالاً، وانتشرت نوازع الشر وأخذت تختفي نوازع الخير.. «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا».. لا أخال إلا وكثير منكم قد ردد هذا البيت، لكن إلى أي مدى انتقلت هذه الصورة الشعرية إلى قراءة الواقع والتماس العوج وترشيد السؤال.. وإلى أي مدى يمكن اكتشاف العطب الاجتماعي في السلوك والممارسة بمعزل عن المعنى الاخلاقي؟ الأخلاق ليس مجرد كلمة عابرة في مفردات اللغة.. بل هي منظومة كبرى دونها ستكون المخاطر المحدقة بالمجتمع مواتية لهدم النسيج وتدمير الروابط وتمكين الخلل. عندما يتفشى الكذب والخداع والغش والفساد بكل أنواعه.. فهذا مؤشر خطير على وصول المجتمع إلى حافة الخطر. تضعضع المجتمعات من داخلها لا مؤشر عليه أوضح من تدهور المنظومة الأخلاقية فيها. ولا قيمة لمنظومة أخلاقية جميلة تتلى على المنابر ما لم تصل إلى مستوى الممارسة الحقيقية والسلوك اليومي والوقوف دون حصون الأخلاق الفاضلة من كل ما يؤدي إلى تدميرها وهدم مكوناتها. يدعونا دين الإسلام إلى مكارم الأخلاق ويعظم من شأنها ويعلى درجتها.. ويتلى علينا صبحا وعشية من آيات الله ما يبشر حينا بعوائد الالتزام الأخلاقي بما يصلح شأن الناس في الدنيا والآخرة.. وينذر حينا من كوارث قد تداهم المجتمعات عندما يسود خراب الضمائر، وتنتشر ممارسات التحلل من قيم الرشد والحق والعدل. ينحاز الناس إلى منظومة أخلاقية وقيم فضلى ليس لأنها قيماً فضيلة مجردة، بل لأنها ضرورة من ضرورات الحياة السوية. فحياة الناس لا تستقيم دون الشعور بالأمن بمفهومه الأوسع، ولا يصنع هذا الشعور سوى الثقة التي تبنيها منظومة أخلاقية لا تقبل الكذب ولا الغش ولا الجور ولا الخداع ولا التضليل. وينحاز المجتمع الطبيعي الذي ولد على الفطرة، للقيم والأخلاق الفضلى، ليس لأنه لُقنها.. بل لأنه أدرك أن حياته لن تكون حياة سوية إذا نزعت منها تلك القيم بل ستكون خراباً وكوارث وآلاماً طويلة. متوالية الخراب الأخلاقي تعظم من حجم التدهور، فالكذب يجر للكذب، والفساد يراكم الفساد وينتج فساد، والجرأة على الحرمات، يهتك أستار المجتمعات، وإشاعة الفساد وترويج الانحطاط والتهاون بالقيم الفاضلة يدمر ما بقى من ممانعة ذاتية للمجتمع الإنساني، حتى تستوطنه الأمراض والأسقام الأخلاقية وهي أشد تأثيراً وتدميراً من أسقام الجسد وعلله. ثمة علاقة طردية واضحة المعالم بين انتشار الفساد وتدهور الأخلاق وبين التردي والتخلف والانحطاط. هذه العلاقة واضحة المعالم لمن يراقب حال بعض المجتمعات. فما تدهورت الأخلاق والقيم الفضلى إلا وتدهور الوضع العام إجمالاً، وانتشرت نوازع الشر وأخذت تختفي نوازع الخير. عاش الآباء والأجداد في قرى ومدن صغيرة، وعلى الرغم من الفقر والفاقة وصعوبة الحياة، كان ثمة نسيج قوى من الإيمان بالقيم الفضلى. بيوتهم تبدو كتلة واحدة فلا أسوار عالية ولا نوافذ مصمتة. لكن كان من النادر أن يعتدي جار على جاره أو يسرقه أو يخون أمانته.. غاب الرجال عن بيوتهم مدداً تتطاول لمواجهة استحقاقات الحياة والضرب في الأرض طلباً للرزق.. فما عُرف أن جاراً لم يأمن جاره بوائقه. ولم يعرف أن جاراً تخلى عن جاره أو اعتدى على حرماته.. بل كانوا يرونها أمانة في أعناقهم حتى يعود. تعاملوا بالدرهم والدينار، وأودعوا ما يملكون لآخرين، بل إن بعضهم لا يملك حتى سنداً لما أودع، فثمة ثقة كانت نبراساً يضفي على ممارستهم الأمن النفسي.. فلا تخطر ببال أحدهم أن شهوة المال -وفي أزمنة الفقر والعوز- ستكون مهيمنة على الأمانة التي يرون التفريط فيها دونه خرط القتاد. وبالتأكيد سيكون هناك حتى في تلك المجتمعات وتلك الأزمنة من يخفق في اختبار الأخلاق، ولكن الحديث هنا عن السائد وليس الحالات الشاذة. أما ان تُضرَب الثقة اليوم ليصبح عدمها هو السائد، والشك هو المسيطر، والخلل هو الفاضح والمنتشر، والانتهاك أقرب من الالتزام، فهي إنما تصنع ثقوباً واسعة تقصر عنها الرقع المتهاوية. خط الممانعة في أي مجتمع يبدأ من منظومة القيم الفاضلة والأخلاق العالية.. فإذا انتهك هذا الخط أو كثرت فجواته أو تهاوت جدرانه.. فسيكون من السهل إحداث أكبر الخلل في هذه المجتمعات. إن الجيوش لتعجز عن صناعة ما يصنع الخلل في منظومة القيم.. إنها يمكن لها أن تقتل البشر وتدمر الحجر وتحرق الشجر.. لكنها لن تقوى عن انتزاع ما غرس في صدور الناس من قيم عزيزة وكريمة.. ولكن إذا انتزعت هذه القيم وتهشمت، وحل محلها ما يناقضها فسيكون ذلك أشد تأثيراً وأفدح مصاباً. و«إذا أصيب القوم في أخلاقهم .. فأقم عليهم مأتماً وعويلاً».