كانت الحرب الكورية - الكورية صنيعة ظروف زمنها، فكانت شبه الجزيرة الكورية ضحية ذاك الزمن وصراعات وحروب ومصالح معسكراته الشرقية والغربية. ثم كان تقسيمها صفقة بين المتصارعين. صفقة دفع ثمنها من وقته وجهده وتاريخه الشعب الكوري بشقيه الجنوبي والشمالي؛ مثلما كانت الصفقة نفسها ثمناً لهدنة بين المعسكرين المتصارعين في تلك البقعة سيئة الحظ. بعد ثلاث سنوات دامية مؤلمة، انتهت الحرب الأهلية بين الكوريتين بهدنة مخيفة في العام 1953، هدنة ظل فيها القلق والتربص والتحفز سيّد الموقف لأكثر من 60 عاماً، وتحولت معها المنطقة الحدودية الفاصلة المنزوعة السلاح بين الجارتين إلى أكثر المناطق سخونة في العالم، يزورها السلام عابراً ولا يغادرها شبح الحرب، وتقف فيها القلاع العسكرية شديدة التحصين نذير شؤم. خلال هذه العقود الطويلة التي تلت الحرب الأهلية، كانت الجارة الجنوبية تحاول أن تصنع اختراقاً إيجابياً مسالماً لجو التوتر في تلك المنطقة المنزوعة السلاح التي كرّست الانقسام في شبه الجزيرة الكورية، محاولات كثيرة جداً ومتنوعة، غير أن أبرزها وأهمها على الإطلاق هو محاولات سيول المذهلة لإسقاط مشاعر بديلة لمشاعر التوتر والقلق والتأهب في تلك المنطقة. إذا كانت الهدنة قائمة طوال هذه العقود، وصامدة أمام أي تجاوزات واستفزازات، فلماذا ننتظر أن يحل السلام من السماء في هذه المنطقة سيئة الحظ دون أن نفعل شيئاً؟ لماذا لا نبدأ بتهيئة الأجواء لاستقبال السلام؟ وطالما توقفت الحرب، لماذا نعيش أفكارها وهواجسها؟ لماذا لا نعيش فكرة السلام بدلاً من ذلك؟ وإذا كان الحاضر امتداداً صعباً لماض مؤلم، إذاً فلنقفز عليهما معاً ونعيش المستقبل الذي نراه بإيماننا، ولنبدأ من هنا، من هذه الأرض التي شهدت كامل مأساتنا ولا تزال تشهد ذروة قلقنا! بدأت من إجابات هذه الأسئلة خطوات زرع مشاعر الاطمئنان والإيجابية والفرح، بل والاستثمار، في تلك المنطقة الحدودية الملتهبة. وبدلاً من مشاعر الضيق والخوف التي يشعر بها زوار أي منطقة عسكرية مخيفة ومحصنة، صُنعت في الأجواء مشاعر مشابهة لتلك التي يعيشها الناس عند زيارة المواقع التذكارية. وقد تحولت المنطقة إلى ما يشبه متحفاً مفتوحاً رغماً عن الإجراءات الأمنية، وزاحم فيه الواقع العسكري المدجج؛ واقع سياحي مواز تزينه مجسمات ومزارات ومواقع للتعرف على تاريخ المنطقة وحدودها ومضمونها، وأخرى لبيع التذكارات والهدايا وبعض المأكولات! يمكن تشبيه ذلك باختصار، ب»إحياء أجواء ما بعد سقوط جدار برلين»، قبل سقوطه بفترة طويلة جداً. وها هو الأمل يُزهر، والواقع الموازي الجميل يستحوذ شيئاً فشيئاً على الواقع المحصّن المنفر. وقد اتفقت الكوريتان أخيراً على إزالة 20 موقع مراقبة على طول الحدود شديدة التحصين بينهما، في مسعى لتخفيف التوتر في المنطقة، وعلى أمل التخلص منها جميعاً في المستقبل، وفق ما نقلته وكالة أنباء «يونهاب» الكورية الجنوبية، نقلاً عن مسؤول في وزارة الدفاع في سيول، موضحة أن الجيشين شرعا في تدمير المواقع العشرين في المنطقة منزوعة السلاح التي تقسم شبه الجزيرة الكورية بعد سحب الجنود والمعدات منها. كما قامت الكوريتان بإزالة جميع الأسلحة النارية ومواقع الحراسة من قرية بانمونجوم الحدودية، تاركة فيها 35 من الأفراد غير المسلحين من كل جانب، وهي منطقة ذات رمزية خاصة، إذ تعتبر المنطقة الأمنية المشتركة، والموقع الوحيد على طول الحدود المتوترة التي يبلغ طولها 250 كيلومتراً، حيث يقف وجهاً لوجه جنود من الكوريتين ومن قيادة الأممالمتحدة. ومن يدري، ربما قريباً جداً، يتفوق «معرض قرية بانمونجوم» العالمي، على إحدى آخر بقايا جدار برلين الواقع في منطقة معرض الجهة الشرقية «إيست سايد غالاري» في حي «فريدريشسهاين»، الذي يعدّ أطول معرض مفتوح في العالم، على مساحة العرض تبلغ 1316 متراً، تزينها لوحات كبار الفنانين العالميين.