لسنوات خلت كنت في كل مساء، وقبل الدخول إلى غرفة النوم أعمد إلى سحب فيش التليفون، فقد كان من "الآفات" الكبرى في عديد من المنازل، وفي بعضها كان باباً للأحاديث الحميمة والغزل والمعاكسات والمكائد؛ فقد كانت "الهواتف"، إذا نام أهل المنزل، أو إذا خرجنا إلى أعمالنا، تستغل أسوأ استغلال من بعض عاملات المنازل، خصوصاً في المنازل التي تضم زوجة عاملة، ولن يصدق أحد الآن أن الأرقام الهاتفية كانت تسوق في المكاتب العقارية، وبعضها يعلن عن عرضه للبيع في الصحف، مرة بداعي السفر ومرة بداعي الانتقال من المنطقة، وكان سعر هذه الأرقام يصل أحياناً إلى آلاف الريالات، حتى هاتفي لم يشرف منزلنا الجديد إلا بعد عامين من سكننا، وقد بذلنا من الوسائط ما يعلم بها إلا الله، حتى نحصل على الرقم الذي كان يحسدني عليه الأصدقاء لتميزه، مثل تميز أرقام السيارات! ولم يتحلحل الوضع الهاتفي المتأزم إلا بعد دخول "الجوال" وبيع الرخص الهاتفية، حينذاك إذا طلبت رقماً وجدت علبة أمام منزلك تضم أرقاماً بدلاً من رقم واحد، كان مخصصاً لكل منزل! وهكذا شيئاً فشيئاً طرأ على الاتصالات سيل من التطورات جعلت "الهاتف" ينزل من كرسيه العالي، وبدلاً من ترصد الأبناء والبنات وعاملة المنزل، وهم يحتضنون الهواتف، أصبحت الهواتف "الجوالة" وسماعاتها المشبوهة، أشكالاً وألواناً، وأصبحت المكالمات مع الجميع، وبأرخص الأثمان في البر والبحر والجو، ولا منة عليك إلا لجيبك، فقد صار الشعار ادفع تجد! حتى دليل الهاتف الضخم الذي يشبه مقدمة "ابن خلدون" اختفى من المنازل والمكاتب ولم نعد ننكب عليه بحثاً عن رقم أو عنوان! وسائل الاتصالات الحديثة، وفرت كل شيء، العناوين والسير والأخبار والمعلومات، ما دق منها وما عظم! ولم تعد شركات "الدعاية والإعلان" الكبيرة تدخل في مناقصة بالملايين، لإصدار دليل الهاتف؛ ومن "غلاوة" هذه الأدلة كان بعضها مخصصاً للمنازل، وبعضها للشركات والمؤسسات، وبعضها للفاكس! ولأنني دقة قديمة، فإنني لم أرصد التغيرات جيداً، واشتريت فاكساً للمنزل، لأرسل بواسطته المقالات للصحيفة التي أتعامل معها، لكنني لم أستخدمه؛ بفضل هذا التسارع في التقنية، ومازال بورقته حتى الآن، ولابد أنه ينتظر "حملة" القضاء على "الكراكيب" التي أقوم بها بشكل دوري، في منزلي وسيارتي ومكتبي الصغير. "الهاتف" الآن مثل عزيز قوم ذل، قابع بهدوء تام في الأركان، ولا يرن غالباً إلا لفتح باب المنزل، أما رنته العادية، فقد أصبحت نذير شؤم، فلن يطلبك عليه إلا الديّانة وشركات التقسيط والمستشفيات والشياب، إضافة إلى الاستعانة الشرفية به في خدمات الإنترنت، ترى هل تدور الدائرة على "الجوال"، كما دارت على "البيجر" الذي مهد له الطريق، وظن أنه سيقضي على الهاتف!