حين بدأت أعمال قمة مجموعة العشرين، في العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس، كانت المملكة حاضرة بقوة، تفرض وجودها على صعيدي الاقتصاد ورسم السياسات المستقبلية في أنحاء العالم. صحيح أن القوى التقليدية الكبرى كانت في حالة من التشظي والانقسام العميق بين دولها، لاسيما أن المصالح تتضارب والأهداف تتشابك غير أن وفد مملكتنا بقيادة ولي العهد الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز كان له حضوره الفاعل في تخفيف حدة الصراعات في مختلف مناطق العالم، والتي انعكست آثارها بالسلب على طريقة الآداء، وربما لهذا السبب كان من الحتمي وجود كيانات معتدلة كالمملكة يمكنها أن تقوم بمهام تقريب وجهات النظر. كما أن حدوث تحركات مريبة على الأرض في الأشهر التي سبقت القمة وهو ما بدا ظاهرا للعيان والذي يمكن اعتباره نوعا من الحرب الباردة، قد عكر الأجواء السياسية، وهنا تقدمت المملكة ببسط وجهة نظرها فيما يخص طريقة الخروج من الأزمات عبر حلول ذات مصداقية. ما زال سلاح النفط من العناصر الأساسية التي يجري التفاوض مع مناطق إنتاجه، وهو ما يتطلب سياسات جديدة لتستقيم الأمور، وهنا تحضر المملكة كلاعب رئيس وقوي يختص بالموضوع، وسط تقليدية بعض الزعامات، في بعض مناطق العالم كان ظهور الوفد السعودي ممثلا للقيادات القادمة بقناعات وممارسات تقدم بدائل لم تختبر بعد لكنها تمتلك الكثير من أسرار النجاح. لقد أصبح الاقتصاد هو المحرك الأول لاتخاذ القرارات الملحة، وهو ما آمن به سمو ولي العهد الذي خاض تجربة التحديث الناجحة بمباركة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله-. إن المناورات التي قامت بها قوى غربية مناوئة للمملكة، واجهت حضورا قويا وراسخا لقيادتنا التي تمتلك حق المشاركة في صياغة قوانين ولوائح تحكم العالم في الفترة القادمة ولتثبت للعالم بأسرها قوتها وتمكنها من تجاوز الأزمات، بل وعلاج قضايا المجتمع الدولي. وبناء على ما سبق وجدنا الوفد السعودي قادرا على الحركة الحرة، المرنة، الذكية بكل التناقضات وظروفها، حيث يمتلك من أسباب التأثير القدر الكبير، وهو ما أكده الرئيس الأرجنتيني، ماوريسيو ماكري، الذي أشار بكل وضوح إلى كون التحديات العالمية تحتم على قيادات العالم وفي مقدمتها المملكة، العمل بشكل جماعي لحلها حلا جذريا. لا شك أن قمة مجموعة العشرين قد تلقت تحذيرات قوية من جهات عدة من بينها صندوق النقد الدولي، من خطر تضرّر الاقتصاد العالمي بسبب الرسوم التي فرضها ترمب على السلع الصينية وتهديداته المعلنة باتخاذ مزيد من الخطوات ضد واردات بلاده من السيارات الأوروبية واليابانية. الأمر الذي يتطلب حدوث انفراجة تمنع وجود مناطق متضررة من تلك الحرب التي تكاد تعصف بالجميع دون استثناء. إنّ دولاً ناهضة في مجموعة العشرين ومن بينها البرازيل وإيطاليا والمكسيك اتّجهت إلى فرض سياسات تحافظ من خلالها على سلامة اقتصادها وقوة بنيانه. حيث يدرك الوفد الرفيع الذي يمثله خبراء اقتصاديون بالمملكة أن الانقسام الذي شهدته جنبات المؤتمر قد يؤدي إلى مزيد من إصدار قرارات متشددة أحادية الجانب، من هذا الطرف أو ذلك، وبناء عليه فقد صار من المتوقع أن تكون هناك مفاوضات جادة لها جداول أعمال محددة لتقليص الهوة بين التصورات المتباينة، وعليه فقدر المملكة ذات الاقتصاد القوي أن تحدد موقفها المبني على رؤية عميقة، يمكنها تبني عددا الأفكار منها: أولا: معالجة قضايا الحدود ومشاكل القوى التي تريد فرض نفوذها بالقوة عبر مفاوضات تتسم بالصراحة والوضوح والفعالية. ثانيا: البدء في تخفيف حدة الحروب التجارية بشكل تدريجي من خلال اتفاقيات تجعل الجميع يكسب، ولا يكون هناك جانب يشعر بالخسارة. ثالثا: ضرورة أن تحدث إصلاحات في الأنظمة تجعل التجارة الدولية عادلة بما يحقق نمو الاقتصاد العالمي كله. رابعا: العمل بقوة وإخلاص على تنظيم أسواق المال العالمية، وتقوية النظام المالي العالمي، كذلك تعزير آليات الرقابة عليه. خامسا: معالجة قضايا متفجرة تشمل العالم كله، بقدر من الفهم والخصوصية وعلى رأسها تسليط الضوء على المخاوف المتعلقة بمصير الاتفاق النووي العالمي مع إيران. سادسا: إن قضايا فرعية مهمة من بينها: التغير المناخي والهجرة واللجوء ومحاربة الإرهاب، تحتاج إلى رؤية واضحة للخروج من عنق الزجاجة بقرارات يمكن تفعيلها وتحويلها إلى آليات يسهل تنفيذها. سابعا: إن رخاء العالم كله هو الغرض الأسمى الذي يجب على القوى العظمى وضعه أمامها فلا يمكن حل مشاكل الدول الكبرى بمعزل عن مشاكل الدول الناهضة التي تعمل على اللحاق بركب التقدم. إن حضور المملكة ضمن أقوى عشرين اقتصادا في العالم يؤكد الدور المحوري الذي تلعبه المملكة المحبة للسلام على المستوى العالمي، ولهذا لن يكون غريبا أن تتبادل بلادنا الخبرة مع دول اخرى لها مواقفها وسياساتها التي تتسم بفهم خريطة العالم الجديد حيث يصعب تهميش دولة على حساب أخرى. كلما كان اقتصاد المملكة قويا أمكننا الحديث من منطلق قوة وضرورة، لهذا لا ينبغي التفريط بعناصر نمتلكها تحت أي ضغوط من جانب كتل مناوئة، يهمها مصلحتها قبل أي كيانات أخرى. إن مشاركة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مترئسا وفد المملكة في قمة مجموعة العشرين قد مثل إجابة عن أسئلة مشروعة طرحها الإعلام الغربي عن حقيقة ما يحدث في واحدة من أهم مناطق العالم حفظا للاستقرار ودعما للسلام العالمي ولسلام البشرية جمعاء. هذا الشاب المؤمن بقضايا وطنه، حمل على عاتقه مهمة التحديث والتطوير ونقل بلاده بل المنطقة بأسرها إلى أفضل مكانة متسلحا برؤية علمية وتقنية، إضافة إلى الإصلاحات الاقتصادية وتحسين التشريعات والبيئة الاستثمارية داخلياً، مما حدا بصندوق النقد الدولي إلى الإشادة بهذه الإصلاحات. تحتل المملكة المرتبة السابعة عشرة بين اقتصادات مجموعة العشرين، وهي من الدول المؤسسة للمجموعة، ولهذا كان حضورها قويا ومؤثرا وزاده قوة تلك التحركات الواعية للحوار مع الآخر عبر منصات رسمية وودية. من هذا المنطلق، لم يكن حضور المملكة رمزيا أو هامشيا لكنه كان حضور الأقوياء ممن تمكنوا من امتلاك أفكار سياسية ورؤى اقتصادية تصب في مصلحة العالم كله. إن مكانة المملكة وثقلها المؤثر على الاقتصاد العالمي وأيضا مواقفها المعتدلة وقراراتها الاقتصادية الرشيدة التي تبنتها خلال سنوات التنمية الشاملة إضافة إلى النمو المتوازن للنظام المصرفي السعودي، هو الذي جعلها تحتل هذه المكانة البارزة.