تتعدد الأزمات وتتنوع جذورها ومعالمها ومرجعياتها.. إلا أن المهم اكتشاف إمكانية القدرة على مواجهتها، وليس الاستسلام لتأثيراتها، أو معاودة المعالجة بذات الوصفات، التي قد لا تكون سوى مراكمة للمأزق الذي ساهم في صناعة الأزمة وتفاقمها.. من يتأمل صروف الحياة وأحداثها، من يقرأ تاريخها، من يحاول أن يرصد عواقب التعامل مع أزماتها.. سيجد أن في بعض الأزمات والمحن ثمة فرصة للحياة.. ثمة منحة تخفى عن البعض، وقد يراها آخرون، ممن يملكون حس التحديق وحسن البصيرة. والأهم أن يروها ليس فقط طوق نجاة، بل تغيير مسار وطريق ونهج، تلزم القطيعة من ظروف صناعة الأزمة، وما يترتب عليها من مخاطر قد تودي بالفرد أو المجتمع أو الدولة والكيان. على مستوى الفرد، كم من إنسان استحكمت حوله أزمة خانقة، وحاكت خيوط المحن حوله شرانقها، حتى ظن أنه إلى الهاوية أقرب.. فإذا هو في لحظة خاصة، تترا بين ناظريه صور وصور ومحطات ومواقف وارتكابات.. لتنبثق أمام عينيه حقيقة غابت عنه طويلاً، وطريق لم يبصره يوماً.. ومسار كان في غفلة عنه.. فأخذ عهداً على نفسه ألا يجعل لليأس عليه سلطاناً ولا للماضي قيداً يحبسه في قمقم اليأس والأسى.. ولا لظروف الأزمة بكل تبعاتها مثبطاً ومعطلاً.. ليبدأ حياة جديدة بعنوان جديد يقطع مع ماضيه بأخطائه وعوامل إعادة إنتاجه.. حتى ليظن البعض أنه صار شخصاً آخر.. ولم يكن هذا ليحدث إلا لأن الأزمة التي استحكمت حلقاتها حوله صهرت ذاته، وقد أيقن بمصدر علته، فعدل مساره حيث ضوء الحق والرشاد.. فكانت تلك الأزمة رحمة من الله.. انتشلته من هاوية التردي إلى صعود مطرد.. ومن يأس واضطراب إلى رضا واستبشار.. وكما أن الأزمات والمحن قد تتحول إلى فرص ومنح.. فإنها أيضاً قد تؤدي إلى كارثة، إذا لم يكن المصاب مهيأ ومستقبلاً لهذا الضوء الأشبه بالومضات الخاطفة، الذي يناديه لتغيير مساره وطريقة حياته واكتشاف مصدر علته.. واستعادة ذاته من براثن اليأس والخطيئة إلى رحاب الخيرية والفضيلة.. حيث تنتفض ذاته على مولدات أزماته وتجِّد في مسار وطريق آخر. والمجتمعات كالأفراد تمر بها ظروف قاسية وأزمات ومحن تحيط بها.. الفارق بينهما أن الفرد يملك القدرة على الحركة في محيط بيئة تولد أزمات، أي أن قضيته غالباً كفرد مرتبطة بخياراته، أو أن دوره أكبر في انتشال ذاته.. بينما المجتمعات مرتبطة بإدارة عامة تمثلها حكومات ومنظومات وتقاليد مجتمعات. في حياة المجتمعات المسألة أكثر تعقيداً من قضية الأفراد، الذين ترتبط أزماتهم إلى حد ما باختياراتهم وتوجهاتهم الشخصية وسلوكهم ونظرتهم لأنفسهم ومن حولهم.. إلا أن قاعدة تحويل الأزمات إلى فرص، والمحن إلى منح، تنطبق أيضاً على المجتمعات وعلى أسلوب إدارتها وتوجهاتها. وكم من أزمة أحاطت بدولة ما، جعلتها تغيّر من مسارها وتعدّل نهجها وتكتشف مصادر الخلل، لتعيد بناء ما تضرر على نحو آخر، ولتكتب في خضم أزماتها شهادة نجاحها في تخطي تلك الأزمة، وليس هذا فقط، بل والقطيعة مع عوامل إنتاج تلك الأزمة. وتمر في الذاكرة العديد من الصور، حيث من براثن الأزمة يمكن صناعة الفرصة، ومن وحل المحنة يمكن استلهام المنحة.. ف»رواندا» البلد الأفريقي الصغير الفقير الذي شهد حرب إبادة مزقت نسيجه الاجتماعي يوماً ما شذر مذر.. كيف تجاوزت هذه الدولة أهوال الحرب الأهلية والإبادة الجماعية وإرثها في وقت قصير.. لتصبح اليوم البلد الأفريقي الأسرع نمواً والأكثر نظافة وجمالاً.. كيف حولت محنتها الكبرى إلى اكتشاف قدرتها على استعادة الدولة والمجتمع من براثن اليأس إلى رحاب السلم الأهلي والإنجاز الكبير.. وهذا السؤال مازالت عشرات الأبحاث الأكاديمية تحاول الإجابة عنه. وكيف حولت ماليزيا الأزمة المالية التي ضربت دول شرق آسيا عام 1997 إلى نجاح كبير دون أن تفقد قدراتها على صناعة نمو مطرد واقتصاد مزدهر. ألم ترفض ماليزيا توصيات صندوق النقد الدولي وبرنامجه الذي طرحها لمواجهة الأزمة، وبدلاً من ذلك أعدت الحكومة الماليزية خطتها الخاصة لمعالجة أزمتها الاقتصادية.. واستطاعت أن تستعيد زمام المبادرة وتجنب البلاد ديوناً باهظة وكلفة عالية. أما الأرجنتين التي مرت قبل 16 عاماً بأسوأ أزمة مالية وأعلنت إفلاسها، ما تسبب في ثورة وغضب شعبي كبير.. إلا أنها خلال فترة وجيزة استطاعت أن تنتشل نفسها من الهاوية، وتحدث انتعاشاً اقتصادياً كبيراً لتصنع بذلك من التجربة الأرجنتينية نموذجاً ملهماً في كيفية صناعة النهضة بعد أن كانت تتسارع إلى الهاوية. تتعدد الأزمات وتتنوع جذورها ومعالمها ومرجعياتها.. من سياسية إلى اقتصادية إلى اجتماعية.. إلا أن المهم اكتشاف إمكانية القدرة على مواجهتها، وليس الاستسلام لتأثيراتها، أو معاودة المعالجة بذات الوصفات، التي قد لا تكون سوى مراكمة للمأزق الذي ساهم في صناعة الأزمة وتفاقمها.