منذُ القدم ظن الشعراء أن السابقين لم يتركوا لهم مجالاً للصهيل في ميادين الشعر.. «هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم»، كما يقول عنترة بن شداد، وكعب بن زهير يقول: ما أرانا نقول إلا مُعاداً .. ومُعارًا من قولنا مكرورًا وقال غيرهم ما يشبه هذا، لكن الشعر أثبت أنه يتجدّد على مر العصور، في أغراضه ومعانيه، وفي صوره الفنية وأخيلته الخلّاقة، فلم يكد العرب يخرجون من صحرائهم التي فرضت عليهم نمطاً من شعر الأطلال، ووصف الناقة والمطر والبرق، ثم الغزل، في نَسَق شبه متواتر، ويعيشون في بيئة جميلة متحضرة، ويختلطون بمختلف الحضارات والشعوب، حتى جدّدوا في أغراض الشعر وأساليبه وصوره، وهجر كثير منهم الأغراض القديمة، حتى إن أبا نواس سخر من تلك الأغراض فقال: قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْمٍ دَرَس واقفاً ، ما ضَرّ لو كان جلسْ! ثم تولى أبو تمام زمام التجديد، فجاء بالعجيب المدهش من روائع البيان، ومستحدثات الصوّر والأخيلة، وبث حياة جديدة في الشعر، مع بقاء الشعر القديم الأصيل تردده الأجيال، وأبو تمام نفسه من أفضل من حفظ لنا روائع الشعر القديم واختارها بذوق شاعر مرهف، في حماسته المشهورة، ثم تفتقت العبقرية العربية عن شاعر عظيم كشف أسرار النفس البشرية، ونفذ إلى أعماق الناس، إنه المتنبي الذي لم يبالغ حين قال: ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي ولا سمعتْ بسحري بابِلُ وفي بيئة الأندلس البديعة خرج لنا الشعراء العرب بموشّحات غاية في الجمال والابتكار، ثم توالى التجديد في العصر الحديث بمدارس مختلفة (مدرسة شعراء الديوان) و(شعراء المهجر) و(شعراء التفعلية)، ودخلت المضامين الفكرية وربما الفلسفية في كثير من تلك المدارس، وخُلطت الأسطورة بالرمز، واعتمد بعضها على السرد، وتأثر كثيرون بالشعر الغربي، ونقلوا أطيافاً جديدة من الصور والمجازات والأخلية والموسيقى الشعرية.. وفي شعرنا السعودي قدّم الدكتور محمد ناهض القويز نقلة كبرى في الشعر الملحمي النادر في تاريخنا بديوانه (شهادة الأرض)، الذي جعل الأرض تنطق بما مرّ بها من أحداث جسام بأسلوب شاعري مسرحي، لا ينقصه إلّا تجسيد تلك (الملحمة الفريدة) في مسرحية شعرية تحتاج إلى الأفذاذ من المخرجين والمنتجين والملقين والمؤثرات، التي تناسب جسامة الأحداث، وقوة صدى الشاعر وأحاسيسه إزاءها. ولا يزال باب الشعر مفتوحاً للمُبدعين المجدّدين، مُرحبا بالابتكار والريادة والتجريب، فلن يُستغنى عن الشعر طالما كان لدى الإنسان قلب ينبض، وشعور يتدفق، وأحداث تتجدد، وتطورات مذهلة في عصرٍ -رغم سرعته- هو في أمسّ الحاجة لمطر الشعر يُروي جفافه. Your browser does not support the video tag.