ومع العودة للكتابة في صحيفة الرياض، لن يكون للحرف وفاء دون استحضار ملامح من شخصية الأستاذ تركي السديري -رحمة الله عليه-، رجل احترم كلمته وفرض احترامه على من تعامل معه. وأتذكر عند انتهاء مدة إعارتي للشركة السعودية للأبحاث والتسويق لرئاسة تحرير مجلة سيدتي، واختياري العودة إلى شغفي الكبير طالباتي والتدريس، اتصل الأستاذ تركي بالوالد -رحمة الله عليهما- طالباً منه التوسط لاستكتابي في الرياض، واقترح عليه الوالد التواصل معي مباشرة. وبادرني الأستاذ تركي: اطلبي ما تشائين، وطلبت: أن تصل مقالاتي مباشرة لرئيس التحرير، وأن يكون التواصل مباشرة معه في ما يخص مقالي، وله الحق في أن يرفض نشر أي مقال مع مناقشتي في الأسباب، ويبقى لي وحدي الحق في التعديل أو التغيير، وهذا هو الأهم في اعتباري، فالكتابة واجب وطني لا مطلب له غير أن يؤدى بأمانة، وألا يُحجر عليه. وأعطاني الأستاذ تركي الوعد، على أن تصله مقالات الأسبوع دفعة واحدة، واحتفظت بالعنوان "حوار" لمقالات الرياض، وهو عنوان أول تجربة لي في كتابة زاوية يومية في صحيفة الشرق الأوسط. وتعهد الأستاذ عمر أبو زيد باستلام المقالات، يصورها ويرسلها بالفاكس، مقالات بخط اليد كُتبت، وبالإخراج الذي أريد، فلم أكن دخلت عالم الكيبورد والإيميل بعد. وكم كان هذا الرجل الخلوق حريصاً وقارئاً جيداً لمقالي، وخاصة "استراحة الخميس". حوار.. والوعد.. واحترم الأستاذ كلمته. وتعلمت الكثير من نقاشه معي حول بعض اعتراضاته على مقال أو آخر، فقد عكست لي قراءة من الداخل للواقع الاجتماعي، لم يكن نقاش رئيس تحرير، بل زميل كاتب في موقع المسؤولية. يؤثر ويتأثر. مقال واحد فقط لم يقبل نشره مع سبق الإصرار دون مناقشة، مقال بعنوان: "يا بنات الصحراء"، رأيته مقالاً بريئاً كُتب بحسن نية، ورآه الأستاذ تركي "مقالاً ثورياً" كُتب بتورية خبيثة!. ومقالات أخرى دار حولها جدل وحوار منها: "أرض المطار القديم: لماذا لا نحوله إلى هايد بارك" ليكون رئة مدينة جدة، جاء الرد بأن أرض المطار القديم خط أحمر. ومقال بلغة قاسية عن جازان، تعبيراً عن صدمتي البالغة حول وضعها عند لقائي الأول بها. ومقال عن "الانتماء والحب" في محاولة لفهم سلوكيات التخريب عند المواطن للممتلكات العامة. ممثلاً في مطار الرياض الجديد وما حدث له من إتلاف بعد فترة قصيرة من افتتاحه. هذه المقالات لم تكن قابلة للتعديل، فلم تنشر. ومقال بعنوان "من له الحق في تكفير توفيق الحكيم" واعترض الأستاذ بشدة على العنوان وطلب تغييره، وكان له -رحمة الله عليه- رد أفحمني..."أنا أقول لك من.... يكفروني.. ويكفروك.. ويكفروا اللي.. !"ونُشر المقال بعد التعديل. ومقال آخر عن تكريم الدكتورة الأستاذة سميرة إسلام عند حصولها على الأستاذية، كأول سعودية في مجالها وربما أول سعودي، طالبتُ بتكريمها بوسام على أعلى مستوى، وقد حاول الأستاذ تركي جاهداً التفاهم بهذا الشأن مع أولي الأمر، ولأسباب معينة لم يتم، ونشر المقال بعد التعديل. لماذا هذه التفاصيل؟ لأنها شكلت لي ملامح من شخصية الأستاذ تركي السديري كرئيس تحرير وكإنسان يحترم كلمته فيفرض احترامه. رجل احترم موقعه وكلمته، وابتعد ب"الرياض" عن الطنطنة الفجة التي تجلت في افتتاحيات ومانشيتات بعض صحفنا الأخرى آنذاك، منذ ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمان، واحترمته كثيراً. رحم الله الأستاذ تركي السديري. Your browser does not support the video tag.