السياحة البيئية في الجنوب وحتى بين جبال طويق وفي شمال المملكة والربع الخالي ستنعش كل القرى التي تقع على دروب المشاة، ومنها النزل والمطاعم التي يمكن أن تديرها الأسر، وتقدم المأكولات المحلية والمصنوعات اليدوية. خلال 11 يوماً قمت أنا واثنان من أبنائي بالمسير حول جبل مونت بلانك، أطول القمم في جبال الألب، وقطعنا خلالها 170 كلم في رياضة المشي الجبلي، أو ما يعرف ب»الهايكنج» بين صعود ونزول، وهو مسار يقع في أراضي ثلاث دول هي سويسرا وفرنسا وإيطاليا، كان المشاركون بالآلاف، وجميعهم من الدول المتقدمة عدا بعض المشاركين من الصين وكوريا، المشاركون من مختلف الأعمار ومنهم من يقوم به للمرة الثانية، كان شعار الرحلة هو الصحة والبساطة والتصالح مع البيئة، فخلال الأحد عشر يوماً لم نرَ شخصاً واحداً يلوث البيئة بما أحضره، ولا وجود لعلب البلاستيك أو الأكياس على الطريق، ولا عبث بالأشجار أو مكونات الطبيعة، وبالطبع ليس كل مواطني تلك الدول بهذا الانضباط والوعي بأهمية الصحة والبيئة، ففيهم كغيرهم مدمنو الكحول والمخدرات ومرتكبو الجرائم ومخالفو الأنظمة وهكذا الإنسان في كل زمان ومكان. من أكثر ما أعجبني هو بساطة السكن في تلك الجبال التي لا تصلها السيارات، فلا فنادق ذات نجوم ولا منتجعات ومسابح، بل أكواخ تسمى ملاجئ، وينام فيها المشاركون في رحلة المشي بصالات تحوي عددا كبيرا من الأسرّة، وكأنها سكن وحدة عسكرية، مع توافر غرف خاصة لمن يحجز مبكراً لكنها قليلة العدد، ومن المشاركين في هذا النشاط الذي يقام في أشهر الصيف طلبة المدارس، ومنهم الكشافة وهواة الدراجات الهوائية، وبعض المشاركين معهم خيامهم الخفيفة الوزن، التي ينصبونها في آخر النهار في أماكن مخصصة لهم بمبالغ رمزية. رياضة المشي في أحضان الطبيعة أو ما يطلق عليه بالهايكنج من الرياضات الراقية التي تستقطب محبي الطبيعة والواعين بأهمية المشي في أجواء صحية وتضاريس مختلفة، كما أنها تمكن المشارك من اكتشاف المنطقة بعكس لو كانت رحلة بالسيارة، فقد اكتشفنا خلال تلك الرحلة ذلك الجمال الأخاذ لجبال الألب، وكثرة الجداول المنحدرة من الجبال بفضل كثرة الأمطار وذوبان الثلوج في فصل الصيف. لقد قامت على رياضة المشي الطويل «الهايكنج» خدمات سياحية كثيرة، أنعشت تلك المناطق التي تقع بين تلك الدول الثلاث، ومن بينها الفنادق في المدن المحاذية لذلك المسار، والتي تنتشر فيها محال بيع معدات المشي والمقاهي، والنزل أو ما يسمى الملاجئ التي تدار بأقل عدد من الإمكانات والتجهيزات لبعدها عن المدن، ووجودها في أماكن عالية، ومواقع جميلة تطل على مناظر خلابة، وفي مدينة واحدة على سبيل المثال، وهي «شامونيه» الفرنسية نجد أن كل المحال تقريباً تعتمد على سائحي هذه الرياضة، ورغم أن سكانها لا يتجاوزون الثمانية آلاف شخص، إلا أن العدد يرتفع في الصيف إلى 80 ألفا، و40 ألفا في فصل الشتاء، حيث تنتشر رياضة التزلج على الجليد. هذا النوع من السياحة يناسب المملكة، خاصة في الجنوب المعتدل في أجوائه والجميل في طبيعته، ففي الوقت الذي كانت فيه الحرارة في المدن السويسرية والفرنسية تقارب الثلاثين درجة، كانت درجة الحرارة في أبها 26 درجة فقط. السياحة البيئية في الجنوب وحتى بين جبال طويق وفي شمال المملكة والربع الخالي ستنعش كل القرى التي تقع على دروب المشاة، ومنها النزل والمطاعم التي يمكن أن تديرها الأسر، وتقدم المأكولات المحلية والمصنوعات اليدوية، لكن هذا يتطلب الاستعانة بمتخصصين لتخطيط تلك المسارات بشكل احترافي، وبمساعدة كبار السن لمعرفة الدروب القديمة ثم إصلاحها لجعلها متاحة وآمنة وتلبي رغبات الجميع لمن يريد أن يمشي ليوم واحد أو أيام. ومن وسائل نشر هذه الرياضة الجميلة والمفيدة تعميمها في المدارس والأندية الصيفية والجامعات وفرق الكشافة وجعلها رياضة صحية وبيئية واقتصادية. من الصعوبة أن أحصي عدد الفوائد التي خرجت بها وأبنائي الذين شاركوني هذه الرحلة الصعبة والممتعة في الوقت نفسه، لكن أهمها كان ضرورة التخطيط المبكر للرحلة، وحجز أماكن المبيت قبل أشهر، والاستعداد البدني ووضع الهدف وتقسيم المسؤوليات والتعاون، ثم العودة إلى المملكة بنفسيات صافية وصحة ممتازة ووزن مثالي، بعكس من ذهبوا إلى تلك الديار للتجول بين المقاهي وبهو الفنادق والأسواق دون ممارسة أنشطة رياضية أو حضور فعاليات ثقافية. Your browser does not support the video tag.