هذه مقولة متداولة، ترسخت في الذاكرة من مشاهد المسلسلات العربية، التي لا تكف عن الزج بها في السياق الدرامي. هناك من يتعامل معها كحكمة عظيمة، متجاهلاً أنها مجرد كلام قيل في موقف خاص، لا ينطبق على غيره من المواقف. كما أن الحكمة تصبح نقمة إذا لم تكن نتائج مضمونها إيجابية. وهناك من يتخذها حجة، ويدافع عنها، باعتبارها من المثل العليا، التي لا تلقي للمال أهمية على حساب البذل والتضحية والعطاء. تأملت تلك المقولة التي كنت في يوم من أيام المراهقة، وأوليات الشباب مخدوعاً بها، نتيجة ثقافة مجتمعية لا تولي إدارة الإنفاق أهمية كبرى، في مجتمع طبيعته تنأى به عن التخطيط الشخصي، وتجره إلى الفوضوية في إدارة وقته، وأمواله. حين تنفق أموالك بناء على نظرية :»أنفق ما في الجيب.. يأتك ما في الغيب» ستجد نفسك ذات صباح، عاجزاً عن الذهاب إلى عملك لأنك لا تمتلك نقوداً تكفي للوقود! عندها ابحث عمّن يقرضك! هذا ماجنته يداك! هناك من يرى أن المقصود بالمقولة هو الإنفاق لوجه الله؛ أي الصدقة، وأنها تحمل مضامين التوكل على الله، واليقين بأن الله جعل لكل منفق خلفاً. لكن هذا الرأي في نظري غير دقيق، ولا يستقيم مع سياق المقولة، ولا مضمونها، كما أن الله سبحانه ذكر في القرآن الكريم مبادئ للإنفاق وعلى رأسها التوسط بالإنفاق حيث قال: «وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» وأيضاً:«وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا» وكذلك قوله:»وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا». وقوله: «وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرًا»، ومن هنا يمكن الإشارة إلى ما لفتت إليه معاني الآيات من مبادئ التخطيط، والموازنة بإدارة الإنفاق، وألا تغلب العاطفة، فتسيطر على قرار الإنفاق؛ لأن ذلك سيقود إلى الإفلاس. أضف لذلك الإشارة إلى روح المسؤولية تجاه حق الذات، وتجاه حق الآخرين، وتجاه واجب المحافظة على المال من الإنفاق السيّئ كالتبذير، أو الإمساك الضار. إذن، احفظ ما في الجيب، وأنفق بتوازن؛ يأتك ما في الغيب. فتفريطك بما في جيبك، لن يجلب لك إلا نكسة مالية، تنعكس بسلبياتها على جميع شؤون حياتك. Your browser does not support the video tag.